أباطرة الفتنة فى المحليات
منذ ما يزيد على العامين كنت فى زيارة لأسرتى فى الصعيد.. كان الجو حارًا كما هى عادة الصيف هناك.. ومثل كل أهالينا دخلت إلى السرير محتميًا بالمراوح أحاول خطف ما يسمى بساعات القيلولة بعيدًا عن صهد أغسطس وجحيم الظهيرة، لكن صوتًا نسائيًا يستنجد بصراخ حاد أفزعنى، فخرجت من حجرتى مذعورًا لأجد العشرات من أبناء إخوتى قد سبقونى إلى الخارج ينظرون ما الأمر.
الصراخ يتعالى كلما مشينا.. فيما الأفق يعانق دخانًا كثيفًا يأتى من ناحية الجنوب معاكسًا اتجاه الريح.. أدركت على الفور أنه «الحريق» وفى هذه الحالات الجميع يجرى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
لم تمض دقائق حتى كنا فى قلب الحدث.. كرم نخيل امتدت إليه النار من شظايا عملية «خبيز» كانت تجرى من فرن بلدى.. انتقلت النار من «الكرنيف» فى أول نخلة صادفتها ومن نخلة إلى أخرى حتى صار الكرم كله قطعة من اللهيب.. داخل الكرم تعيش سيدة وحيدة من أقاربنا مع طفلها الذى يقترب من الشباب.. الجيران أنقذوا السيدة وجزءًا من عفشها.. وحوصرت النيران فى موقع واحد حتى لا تمتد إلى بيوت أخرى.. فيما يتسابق الشباب بالجرادل التى ينزحونها من الترعة للإطفاء حتى جاء رجال الحماية المدنية ومعهم سيارات الإطفاء بخراطيمها الكبيرة، وجاء رجال قسم الشرطة أيضًا والإسعاف وموظفو المجلس المحلى.
ست ساعات كاملة مضت حتى تمت السيطرة على النيران، البيت المبنى بالطوب اللبن الذى نسميه «الطوب الأخضر» منذ سنوات طويلة يتداعى، وصاحبته لا تصدق أنه لم يعد بيتها.. أو بمعنى أدق لم يعد لها بيت.
الجميع تسابق لمساعدتها.. جلب جاموستها وأغنامها.. ودجاجها الفار من النيران.. لكن نخيلها «وقع» وبيتها أيضًا.. الأقارب استضافوها.. لكن إلى متى؟!
فى اليوم التالى تم استكمال إجراءات متبعة فى مثل هذه الحالات.. سواء بالنسبة لمحضر الشرطة، الذى أثبت ما حدث.. أو بالنسبة لموظفى التأمينات والوحدة المحلية.. وبدأت رحلة المتاعب.. كيف تستعيد السيدة بيتها.. لجأت إلى محام معروف عنه تولى مثل هذه الأمور ليجهز ملفًا، كما نصح أهل الخبرة، للبدء فى إجراءات «الإحلال والتجديد» للبيت المنهار.
الموظفون وقتها قالوا للسيدة وجيرانها يمكن ترميم المنزل الآن بشكل صورى.. أو حجرة واحدة منه على الأقل بالطوب الجيرى البلوك.. لتعيش فيها.. لكن على مسئوليتها، فبقايا البيت يمكن أن تنهار من فوقها بعد ذلك الكم الخرافى من المياه التى تعرضت لها الأساسات الهشة والأسقف المعرشة من الجريد.. لكن هذا ما حدث.
مرت الشهور.. وتصورت أن الأمر انتهى وأن السيدة التى كانت تستعد لتزويج نجلها ليأتى لها بعروس شابة تساعدها فى أواخر أيامها قد انتهت من بناء البيت.. لكننى صدمت بمكالمة هاتفية منها منذ يومين تستنجد بى.. بالصحافة.. بأى مسئول فى البلد.. لقد مر عامان كاملان وملف بيتها تائه ما بين الجمعية الزراعية والمجلس المحلى.. ومديرية الإسكان.. وهى ومحاميها لا يعرفان السبب.. نهاية المطاف عرفت أن حالة هذه السيدة ليست الوحيدة.. فى قريتى فقط ١٨ حالة أخرى هُدمت بيوتهم لأسباب مختلفة، لكنهم لا يزالون فى العراء منذ شهور.. لأن السادة فى المحليات يتفننون فى خلق أسباب الفتنة.. مراوغات لا ينتهى آخرها.. أنهم خاطبوا مديرية الإسكان لندب مهندس للمعاينة، لكن الإسكان لم ترد حتى الآن.
فيما كنت أتحدث مع السيدة كان جارى على المقهى ينصت باهتمام ويبتسم.. وبمجرد أن انتهيت سألنى.. هو أنت معرفتش اللى جرى مع جارنا «فلان»؟.. سألت.. حصل إيه؟! فأضاف وهو لا يزال مبتسمًا: الجيران اللى تحته اشتكوا من أن شقته بتنزل عليهم ميه.. الراجل ما صدقش.. راحوا اشتكوه فى القسم والحى.. وجه ناس من الشرطة والحى.. ومعاهم سباك أقر بأن الحمام بايظ.. البانيو خرب وسرب المياه إلى شقق الجيران.. السقف بتاع اللى تحته باظ.. وحكموا عليه فى وجود موظفى الحى بأن يعيد تركيب الحمام.. وتوضيبه من أول وجديد فورًا.. ورضى الرجل مضطرًا.
فى اليوم التالى ذهب واشترى الأدوات الصحية المطلوبة.. والأسمنت.. والرملة.. وفيما هو يعمل على توصيلها للدور السابع، حيث يسكن، من خلال الونش الذى قام بتأجيره بمبلغ يفوق الألف.. فوجئ برجال الحى يصادرون الونش.. لأنه لم يحصل على تصريح بذلك.. الرجل كان فى حالة عصبية.. حاول إفهامهم أن الحى نفسه هو من أمره بإصلاح الحمام، لكن أحدًا لم يسمعه.. المختصر المفيد تمت مراضاة مندوبى الحى الذين لا يعرف أحد إن كانوا قد جاءوا بشكل رسمى أم لا.. وحصلوا على مبلغ ما يفوق الألف أيضًا على سبيل «الشاى» حتى يتركوه يرفع مواد البناء لإصلاح الحمام.. ثم ذهبوا إلى حال سبيلهم.. لم تمض نصف ساعة.. وجاءه اتصال هاتفى من مندوب الحى الذى لهف الألف جنيه منذ أقل من ساعة يسأل «هو إنت يا حاج فلان طلعت طوب فى الونش» فقاله أيوه.. متين طوبة تقريبًا لبناء حاضنة البانيو.. فإذا بالموظف يتساءل «طب إزاى ما قلتش.. إحنا فاكرين بتطلع رملة وأسمنت بس الطوب ممنوع».
الرجل لا يزال فى ذهول.. يسأل وبعدين؟! طلبوا منه أن يلاقيهم فى مكان قريب.. وأخبروه بأن دى فيها محضر لو لم يدفع.. فما كان من الرجل إلا أن خرج من هدومه وأقسم بالطلاق ما هو دافع، وأنه هيكسر الحمام اللى صلحه على راسهم وراس جاره اللى اشتكاه.. فما كان منهم أمام ثورته إلا أن تركوه حتى يهدأ كما قالوا ومضوا.
باختصار.. حال المحليات سواء فى سوهاج.. أو الجيزة لا يسر عدوًا ولا حبيبًا.. وفرحة الناس من أهالينا الطيبين بالتعديلات التى يجريها البرلمان على قانون المصالحات يفسدها أمثال هؤلاء الموظفين الذين يحتاجون إلى تدخل عاجل من الأجهزة الرقابية.. هذه الأجهزة يمكنها مراجعة تلك الملفات المركونة وتحريكها.. وحصار هؤلاء الذين يصنعون الفتنة.