قوات الصاعقة التعليمية
بداية فليس للمقال علاقة بأبطال الصاعقة المصرية سوى فى التشبيه واستعارة المعنى.. حيث نعرف جميعًا أن فكرة الصاعقة تقوم على اختيار نخبة متميزة وتدريبها تدريبًا استثنائيًا كى تقوم بمهام ربما تعجز عنها الجيوش المنظمة كثيفة العدد.. يحل التميز الشخصى هنا محل الكثرة العددية والعمل المنظم وخطة التحرك بالجميع إلى الأمام.. من تأمل حال التعليم فى مصر يبدو لى أننا لا بد وأن نضع خطة لتبنى الطلاب المتميزين عقليًا ونفسيًا ليكونوا فى رعاية الدولة بشكل مباشر.. مطلوب مدرسة للمتفوقين فى كل محافظة تبدأ الدراسة فيها من الصف الأول الإعدادى وتكون تحت رعاية مباشرة من مبادرة «حياة كريمة» وتمويلها منها مباشرة.. هذه المدرسة ستكون داخلية وتقدم للطالب المتفوق كل أوجه الرعاية.. هذه الفكرة ليست جديدة تمامًا.. لكن الجديد هو أن ننجح فيما فشلت فيه الأفكار السابقة.. فى الستينيات أسست الدولة مدرسة «المتفوقين» فى حى عين شمس، وكانت تقبل الطلاب المتفوقين فى المرحلة الإعدادية ولكن خمن ماذا حدث؟! مع السبعينيات والثمانينيات استوطن الإخوان المسلمون المدرسة وأصبحت أكبر مركز لتجنيد الطلاب المتفوقين لجماعة الإخوان المسلمين! ولعل هذا يفسر لك سر تركز كوادر الإخوان فى كليات الطب والهندسة.. هل هناك «تغفيل» من الدولة أكثر من هذا؟!! تؤسس الدولة فى الستينيات مدرسة لتخريج الكوادر المتميزة من أبناء الشعب ليفيدوا الدولة والمجتمع فيحول الإخوان المدرسة فى الثمانينيات لمركز تجنيد لهم؟ أليس هذا تواطؤًا يصل إلى حد الخيانة؟؟ أيًا كان الأمر.. اختفت المدرسة وانمحى أثرها تقريبًا مع توالى السنوات.. ولم نعد نسمع عنها خيرًا أو شرًا.. ثم ظهرت منذ عدة سنوات نفس الفكرة للطلاب المتفوقين فى التكنولوجيا.. وأظن أنه تم الإعلان عن تأسيس خمس عشرة مدرسة فى محافظات مختلفة بتعاون مالى من هيئات أجنبية.. وأظن أن الفكرة بدأت عام ٢٠١٠ لكننا أيضًا لم نسمع شيئًا عن هذه المدارس لا بالخير ولا بالشر ولم نعرف هل تفرق خريجوها مثلًا وانضموا لكليات مميزة فى العلوم والتكنولوجيا أم أنها واجهت مشاكل أعاقت أداءها مهمتها؟ وهل هذه المشاكل قابلة للحل أم لا؟ فكرة تبنى الدولة النخبة المتفوقة ليست بعيدة عن الواقع المصرى وهى أحد أسرار نجاح محمد على باشا فى بناء الدولة المصرية الحديثة، حيث كان يبحث عن المتفوقين فى الكتاتيب ويرسلهم فى بعثات تعليمية لأوروبا، وحين عاد الشيخ رفاعة الطهطاوى من فرنسا وتولى مهمة التعليم أصبحت هذه إحدى مهامه الأساسية.. وأذكر أن على باشا مبارك أحد أعمدة النهضة فى عهد الخديو إسماعيل سجل فى قصة حياته كيف كان صبيًا فقيرًا لأسرة من مشايخ الريف تتنقل من قرية لقرية فتمرد على قسوة إخوته وفر منهم ليعمل كاتبًا لدى مأمور الجهة التى كان فيها، فيرشحه المأمور للدراسة فى مدرسة الهندسة العليا «المهندسخانة» فيتفوق ويجد نفسه فى بعثة علمية لفرنسا مع أبناء محمد على باشا نفسه سُميت بعثة الأنجال.. ويعود هذا الفلاح المصرى البسيط ليساهم فى صناعة نهضة بلده فى عهد زميله فى البعثة إسماعيل بن إبراهيم بن محمد على الذى درس الهندسة مثله وحلم بأن تنافس القاهرة باريس وحقق حلمه بالفعل بغض النظر عن المآلات والعواقب.. إن أحد تحديات الواقع الآن أن التعليم المتميز يتكلف عشرات الألوف من الجنيهات سنويًا، وبالتالى فإن المتميزين تعليميًا ممن سيشكلون النخبة المصرية الجديدة سيكونون جميعًا من طبقة اجتماعية واحدة استطاعت أن تمول تعليم أبنائها.. وقد جربت مصر جزءًا من هذا السيناريو من ٢٠٠٤ حتى ٢٠١١.. ولم يقبل المصريون هذا لأنهم أحسوا بالاغتراب عن هذه الكوادر المتفرنجة وبعدم الثقة أيضًا فى نواياها فخرجوا وحطموا كل شىء.. ومن عدم العدل فى ظروفنا هذه أن يبقى التعليم المميز رهنًا على القادرين ماديًا، ومن عدم الواقعية أيضًا أن نتخيل أن الدولة قادرة على توفير ما متوسطه عشرون ألف جنيه تكلفة تعليم متميز لكل طالب من الـ٢٤ مليون طالب!! خاصة أن منهم المتوسط والضعيف ومحدود الذكاء.. إذن الحل أن تبدأ الدولة بالمتفوقين والنابهين وفق اختبارات محكمة دوليًا لا تشوبها شبهة فساد ولا واسطة، وأن تؤسس «حياة كريمة» مدرسة داخلية للمتفوقين فى كل محافظة تقبل فيها نخبة الطلاب المتميزين علميًا ونفسيًا، وأن تكون المدارس تابعة لـ«حياة كريمة» ورئاسة الجمهورية بشكل مباشر، لضمان عدم تراجع مستواها أو تسرب المجاملة لطرق القبول فيها، وربما يكون من المناسب أن يتولاها خبير على اطلاع بطرق التعليم فى العالم مثل وزير التعليم السابق د. طارق شوقى.. أو غيره من الخبراء المعدودين الذين احتكوا بالعالم.. حيث إن المسئول عن هذه المدارس معفى من مسئولية مخاطبة الرأى العام وإرضائه، فالمدارس للنخبة فقط، وبالتالى ليست مهمتها إرضاء الطالب المتوسط، ولا ولى أمره!.. أظن أن هذه المدارس هى الحل العملى والفعال لحل المشكلة جزئيًا على طريقة الصاعقة.. حتى تنجلى الأزمة العالمية وآثارها ونستطيع تجهيز جيوش التعليم النظامية، كما يجب.