هى فوضى
في فيلم الراحل «يوسف شاهين» والراحل «خالد الصاوي» والذي طُرح في دور العرض المصرية قبل شهور قليلة من اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير، وكأن الفيلم - وعرضه في ذلك التوقيت- كان من إرهاصات تلك الثورة.
وطُرحت في الفيلم شخصية ظنها المتلقي آنذاك مقصورة على فئة بعينها ولا تنسحب على فئات أخرى، شخصية كانت تمارس سطوتها على الآخر بدوافع الكبت والانهزام الداخلي، والذي يؤدي حتمًا لجريمة، فالإعجاب غير المتكافئ مشروع جريمة بل جرائم وانتقام من ضحايا متعددين يسقطون بأيادي هؤلاء المكبوتين المهزومين المأزومين.
وهذا النموذج الذي طرحه الفيلم قد تحول الآن في مجتمعنا وواقعنا الحقيقي المعاش لشخصيات وظواهر عدة، وكأن ذلك النموذج قد تكاثر وقد تشظت تلك الظاهرة.
فكان لدينا في الفيلم شخصية واحدة وهي شخصية أمين الشرطة «حاتم» والذي كان الزمن هو زمنه قبل اندلاع الموجة الأولى من الثورة.
أما اليوم وبعد ثورتين وفترات صعبة مررنا بها جميعًا، صار لدينا في مجتمعنا وواقعنا الحياتي واليومي حواتم كُثر، إنهم الحواتم الجدد تمامًا كالنازيين الجدد، حواتم يظنون أن المجتمع ونساءه ملك لهم وحكر عليهم.
فإن قالت إحداهن (لا) أو لم يطالها من يريدها يكون مصيرها القتل والذبح «على قارعة الطريق وعلى رؤؤس الأشهاد».
الانتقام الحاتمي صار سمة مجتمعية لدى ذكور ومراهقي البلاد في الأونة الأخيرة!
فثورة التطلعات ومن ثم الإحباطات التي طالت هؤلاء الذكور بعد ثورتين وحالات من التشظي، إلى جانب نماذج البلطجة التي تملىء الواقع والشاشات جعلت من هؤلاء مجرمين وقتلة، فقبل ثورة يناير شاهدنا في فيلم سنيمائي سلطة نظامية غاشمة لشخص واحد، فصار لدينا الآن فوضى مجتمعية تتحدى السلطة.. أي سلطة ولا تكترث لسلطة القانون وسيادته ولا تعبأ بحرمات الجامعات أو حتى المحاكم وأبنيتها.
فيمارس القتل اليوم على أبواب المحاكم وأمام أسوار الجامعات وعلى قارعة الطريق وعلى رؤوس الأشهاد وفي وضح النهار جهارًا نهارًا نرى الجرائم التي تقشعر لها الأبدان ويمارسها هؤلاء الحواتم العشوائيون بمنتهى البساطة والأريحية ودون أن تطرف لهم عين.
فهم حواتم يملكون سلاحًا عشوائيًا «غير مقنن».. فلا بد من التصدي لهم إذًا بالسلاح المقنن ولا بد وأن تتصدى لهم سلطة القانون، فعشوائيتهم والعشوائية المجتمعية التي نعيشها اليوم جعلت من الجرائم شيئًا وفعلًا عاديًا مقبولًا شعبيًا، إحساس هؤلاء بالرضا والقبول المجتمعي والشعبي صحيح مئة بالمئة! وهو في اعتقادي شيء كارثي دفعهم ويدفعهم لممارسة المزيد من تلك الجرائم دون خوف من عقاب أو ردع بعد أن وجدوا من يتعاطف معهم ويدافع عنهم ويريد فداءهم بالمال الوفير الآتي من الخارج، وكأن الخارج يريد لإناث البلاد الموت والفناء وتحويل ذكور البلاد لقتلة يفتكون بإناثنا، ثم يأتي أهل الداخل ليتعاطفوا ويبرروا ما لا يبرر.
إنها مجموعة ظواهر تمثل في ذاتها حالات من المجون والبؤس والتشظي والفوضى المجتمعية التي لا بد لها من ظابط ورابط يمسك بحزم وحسم بزمام الأمور كي لا تنفلت أكثر من ذلك، فالإنفلات صار سمة مجتمعية لذكور البلاد المكبوتة.
وبطبيعة الحال أدى ذلك الانفلات لجرائم هزت هيبة الدولة والمجتمع والقانون، وتم ترويع النساء والانتقام منهن وكراهيتهن بشكل مجاني باهظ التكاليف.
وطال ذلك الانفلات أيضًا دولة المواطنة وثقافة المواطنة في قضية طفل يتمنى له الآن كل من في قلبه لين وود وينحاز للعدل والحق والرحمة والإنسانية أن يعود لأحضان أسرته الحاضنة بدلًا من إيداعه دارًا لليتامى وحاضنته المجتمعية والأسرية موجودة وتئن الآن من غيابه!
الانفلات والتشظي والمجون.. عللٌ ثلاث تضر بمجتمعنا بشكل خطير ولا بد من التيقظ والتصدي لهم كي لا يفتكوا بنا وبمجتمعنا وما نسعى له من تنمية وبناء.
فمن يسير على أراضينا وقرانا وشوارعنا المتسعة الجميلة الممهدة إن مشى عليها بثقافة ترى الموت حلاً وتتمناه وتمارسه وترتكب الجرائم وتستهزء بالقانون والسلطة لن يكون لأي تنمية أو حياة كريمة أي مكان أو جدوى، ولن نصبح مجتمعًا صحيًا وسليمًا يتوق للغد الأفضل الثقافة أولًا وقبل أي شيء، والبناء والاستثمار في البشر قبل الحجر هو الأصوب بعد أن رأينا بأعيننا ما يحدث حولنا من ظواهر وممارسات لم تكن موجودة من قبل ولم نشهدها من قبل.
نعم بناء الإنسان وبناء ثقافة المجتمع ودولة المواطنة أولوية قصوى كي لا تعم الفوضى ربوع البلاد التي تلمع وتبدو براقة من الخارج أما دواخلها فتُهدم بمعول هدم جبار اسمه الانتقام والقتل والأصولية الفكرية التي تستبيح الأرواح ونساء المجتمع.. أي تستبيح نصف المجتمع.
الذي لن يستقيم أمره بدمار أو غياب ذلك النصف وترهيبه وجعل حياته مهددة وبائسة بفعل الفوضى التي يمارسها الحواتم القتلة الآن في مجتمعنا.
فمن له خير في حاتم وقاتل هذا الزمان لن يكون له خير في نساء المجتمع، ومن ثم لن يكون له خير في مصر ومجتمعها، أوقفوا فوضى الحواتم القتلة فورًا والآن.. كي يكون لنا جميعًا خير في مصر.