بروفايل .
«مصطفى محمود».. حكايات عن الفيلسوف الذى وصل إلى ربه بالعلم والإيمان
"تكمن قيمة الإنسان فيما يضيفه منذ ولادته حتى وفاته".. هذا هو الهدف الذى عاش من أجله الفيلسوف والمفكر والطبيب والأديب الدكتور مصطفى محمود، الذى ملأ الدنيا فكرًا وعلمًا وثقافة، ولم يمر على الدنيا مرورًا سطحيا كما يمر الكثيرون. بل نقش بصمته على صخرة الحياة ليظل اسمه خالدًا بين أسماء المبدعين الكبار.
صرخة ميلاد
يقول الدكتور مصطفى محمود "الناجح هو ذلك الذى يصرخ منذ ميلاده ليقول جئت إلى العالم لأختلف معه".
فى السابع والعشرين من شهر ديسمبر عام ١٩٢٧ ولد مصطفى كمال محمود حسين محفوظ بقرية ميت خاقان التابعة لشبين الكوم بمحافظة المنوفية، فى أسرة يمتد نسبها لآل البيت.
الابتدائية والاعتراض الأول
منذ نعومة أظافره كان مصطفى محمود ينصاع لما يقتنع به عقله ولا ينصاع لما تأمر به عقول الآخرين حتى وإن كانوا أولى قربى.
فى المرحلة الابتدائية كان مصطفى محمود مختلفًا عن أقرانه، لذا سأل مدرس اللغة العربية عن الله عز وجل فاعتبره مدرس اللغة العربية طفلًا مارقًا أو مجنونًا فضربه ووبخه أمام التلاميذ، وهنا قرر الصبى ألا يعود إلى المدرسة رغم تفوقه ونبوغه، وكانت حجته أمام والديه أن طريقة التدريس لا تعجبه وخاصة طريقة مدرس اللغة العربية لأنه ضيق الأفق.
باءت محاولات والديه بالفشل فى إعادة ابنهما إلى المدرسة، وبعد 3 أعوام من الانقطاع التام انتقل مدرس اللغة العربية إلى مدرسة أخرى، فعاد مصطفى محمود إلى دراسته بمحض إرادته، ليعلن للجميع منذ نعومة أظفاره أنه ليس طفلًا عاديًا.
المعمل الصغير
كانت روح العلم تدب فى عقل مصطفى محمود منذ الصغر، لذا قرر أن ينشئ معملًا صغيرًا فى بيت والده فاشترى من مصروفه بعض المواد الكيميائية كى يخلطها ويتبع مآلاتها، واستطاع فى الصغر أن يصنع بعض المبيدات الحشرية التى جربها على الحشرات فقتلتها، ولم يكتف بذلك بل كان يُشرح هذه الحشرات. لتتوالد الأسئلة الوجودية فى رأسه عن سر الحياة والموت وسر الوجود.
الموسيقى فى حياة مصطفى محمود
كان مصطفى محمود يحب الموسيقى، خاصة آلة الناى التى اختارها لتتر برنامجه الشهير العلم والإيمان فيما بعد. كما كان مصطفى محمود يمتلك حنجرة ذهبية وفقًا لما ذكرته زوجته الثانية في حوار صحفى. ويذكر أن والدته كانت غاضبة حين علمت أنه يتعلم الموسيقى أثناء دراسته فى كلية الطب.
مصطفى محمود والإلحاد
يعتقد الكثيرون أن الدكتور مصطفى محمود كان ملحدًا ومنكرًا لوجود الله عز وجل قبل وصوله لليقين. وهذا ليس صحيحًا على الإطلاق، لذا قال كامل الشناوى كان مصطفى محمود يلحد على سجادة الصلاة.
وفى الحقيقة كان مصطفى محمود باحثًا عن الله وعن اليقين بالمنطق والعلم، كما كان سلمان الفارسى والإمام محمد عبده، مما كلفه ثلاثين عامًا من عمره فى رحلة البحث.
لذا قال فى كتابه الأهم "رحلتى من الشك إلى الإيمان" ليتنى آمنت كما آمن العوام.
وفى كتابه "حوار مع صديقى الملحد" فند الدكتور مصطفى محمود أسباب الإيمان بالله الواحد الأحد، ورد على شبهات الملحدين. وبين أن الإنسان مخير فى كل أموره إلا القليل مثل الموت والرزق والوالدين، وهذه أمور لا تدخل الجنة أو النار.
كما بين أن خلق النار ليس ظلمًا من الله بل عدلًا، لكى يقتص للمظلومين من ظالميهم.
كما أوضح أن القرآن لا يكون إلا من عند الله سبحانه وتعالى، وأن الدين ليس أفيون الشعوب كما يدعى البعض، فهو لا يدعو إلى الخمول أو التكاسل بل يدعو إلى العمل والجد، كما أن طقوسه تحتاج إلى جهد متواصل.
برنامج العلم والإيمان
لما وصل الدكتور مصطفى محمود إلى اليقين، شرع فى تقديم برنامج على شاشة التليفزيون المصرى يقرن فيه بين العلم والإيمان. لأنه ليس هناك وصول لله بغير علم وإيمان فكلاهما مقرون بالآخر، فأخبرته إدارة البرامج بتخصيص ثلاثين جنيهًا للحلقة، فأصيب بالإحباط، ولكن هذا الإحباط لم يدم طويلًا، حيث تكفل أحد رجال الأعمال بإنتاج البرنامج الذى كان يطل من خلاله الدكتور مصطفى محمود على جمهوره العربى مساء كل اثنين، ليدهشهم بفكره وعلمه الواسع، حتى صدر قرار بوقف البرنامج قيل أنه جاء بضغوط صهيونية بسبب مقالات ومؤلفات الدكتور مصطفى محمود ضد الاحتلال الصهيوني.
بين الطب والصحافة والأدب
كان الدكتور مصطفى محمود يجمع بين العمل بالصحافة والطب . حيث كان يكتب فى مجلة التحرير، ويمارس مهنته كطبيب، فأصدر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قرارًا بمنع الجمع بين مهنتين، فترك مصطفى محمود مهنة الطب عام ١٩٦٠ وتفرغ للصحافة والأدب.
مؤلفات مصطفى محمود
وصلت مؤلفات الدكتور مصطفى محمود فى الفكر والرواية والقصة والمسرح إلى ٩٠ كتابًا بخلاف مئات المقالات فى كبريات الصحف.
وكان الدكتور مصطفى محمود يتميز ببساطة الكتابة وعمق الفكرة، لذا كانت كتاباته واسعة الانتشار بين المثقفين والبسطاء.
مصطفى محمود والسينما
تلقفت السينما بعض روايات الدكتور مصطفى محمود بعد الانتشار الواسع الذى حققته فى الأوساط الثقافية.
وفى ١٩٦٠ نشر مصطفى محمود روايته "المستحيل" التى ذاع صيتها وحققت أرقامًا عالية فى المبيعات، وقيل إنه اشترى قطعة الأرض التى بنى عليها مسجده فى المهندسين من ربح هذه الرواية، التى تحولت إلى فيلم سينمائى عام 1965 قام ببطولته كمال الشناوى ونادية لطفى، وفى نفس العام قدمت السينما قصته "العنب المر" فى فيلم سينمائى بطولة أحمد مظهر ولبنى عبدالعزيز، وفى عام 1968 كتب الحوار لفيلم نار الحب بطولة حسن يوسف وسعاد حسنى.
فى عام 1973 قدم التليفزيون رواية العنكبوت لمصطفى محمود فى مسلسل من بطولة عزت العلايلى ومحمود المليجى.
وفى عام 1976 قدمت السينما فيلم "شلة الأنس" عن رواية مصطفى محمود التى تحمل نفس الاسم من بطولة نور الشريف ونيللى.
أزمات مصطفى محمود
تعرض الدكتور مصطفى محمود لعدة أزمات فى حياته، كانت بدايتها سؤاله عن الله فى طفولته، ثم بحثه عن الله واعتقاد البعض أنه ألحد وكفر، ثم أزمته مع الأزهر وجمال عبدالناصر حول كتاب الله والإنسان، وكذلك أزمته مع تخليه عن مهنة الطب رغمًا عنه كى يتفرغ للكتابة، وأزمته مع الاحتلال الصهيونى الذى طلب وقف مقالاته فى الأهرام ووقف برنامجه العلم والإيمان بسبب آرائه وكتاباته القوية في وجه الاحتلال الغاشم، لكن كل هذه الأزمات لم تفت فى عضد الدكتور مصطفى محمود، بينما نالت منه أزمة كتاب الشفاعة والذى وضح فيه أن شفاعة النبى مقيدة برضا الله، وهذا لا يعنى إنكار الشفاعة فصدرت 14 كتابًا تهاجم الدكتور مصطفى محمود، ولم ينصفه سوى الدكتور نصر فريد واصل فى طرحه، بعدها انزوى الرجل وانقطع عن الكتابة.
اعتزال مصطفى محمود ووفاته
فى عام 2003 بعد أزمة كتاب الشفاعة آثر مصطفى محمود العزلة فى المرصد الذى أنشأه فوق مسجد مصطفى محمود، ثم أصيب بجلطة، وانعزل عن العالم بأثره، وفى صبيحة السبت 31 أكتوبر عام 2009 رحل العالم الجليل والمفكر والفيلسوف والأديب الدكتور مصطفى محمود دون اهتمام إعلامي يليق بقامته وقيمته وإثرائه للإنسانية بفكر مستنير استطاع أن ينير العالم، مؤكدًا مقولته التى بدأنا بها هذا الموضوع "إن قيمة الإنسان تكمن فيما يضيفه منذ ولادته حتى وفاته".