انكشافات مثيرة لإخوان تونس فى قضية «تسفير الشباب» للقتال فى صفوف الإرهاب
أهم ما يشغل الساحة التونسية الآن هى التحقيقات الجارية فى قضية «تسفير الشباب» التونسى؛ للانخراط فى صفوف التنظيمات الإرهابية، التى كانت عاملة ببؤر التوتر والصراع خاصة تلك التى تواجدت فى سوريا والعراق، البعض من تلك التنظيمات جرى هزيمته مثل «داعش»، التى احتل فيه الشباب حاملو الجنسية التونسية أحد مواقع الصدارة العددية اللافتة. والبعض الآخر لا يزال متواجدًا على الأراضى السورية والليبية بمسميات عديدة تابعة لتنظيم «القاعدة»، وفى تلك أعداد التونسيين أقل نسبيًا ولا يقارن بعدد المنخرطين فى تنظيم «داعش» وفروعه العديدة فى المنطقة وخارجها.
يمكن وصف ما جرى خلال عامى ٢٠١٢ و٢٠١٣، ويجرى الآن بمعرفة القضاء التونسى التحقيق فيه، بأهم القضايا الشائكة المؤجلة التى ظلت فى خانة الـ«مسكوت عنه» عمدًا، طوال سنوات سيطرة فرع الإخوان المسلمين التونسى «حركة النهضة» على مقاليد البرلمان، وأثناء تمثيلها بأكثر من وزير فى الحكومات التونسية المتعاقبة منذ تاريخ بداية القضية، وحتى قيام الرئيس قيس سعيد بإجراءاته التصحيحية التى جاءت لتعالج ميراثًا مشوهًا خلفته الحركة. لم يقف الأمر عند حد اختراق تلك المؤسسات وحدها، بل امتد ليشمل قيادات الأجهزة الأمنية والقضائية؛ مما ساعد فى إحكام السيطرة والقبض على تفاصيل ما جرى، للحيلولة دون الوصول إلى الحقائق ومن ثم كشفها ومحاسبة مرتكبيها. لذلك اعتبرت قضية «تسفير الشباب» أحد أبرز مسببات تعجيل إطلاق عملية التصحيح الثورى الذى قاده الرئيس التونسى قيس سعيد، ويخوض فيه حربًا شرسة مع أطراف عدة من أجل استعادة أسس ومكونات المشروع الوطنى للدولة التونسية، فهؤلاء جميعًا من «حركة النهضة» وحلفائها سيدفعون فاتورة باهظة فى حال تكشفت حقائق ما جرى خلال سنوات ما بعد الثورة التونسية.
بدأت التحقيقات فى قضية تسفير الشباب على خلفية الشكوى المقدمة، من النائبة السابقة بالبرلمان وعضو لجنة تقصى الحقائق فى شبكات التسفير السيدة «فاطمة المسدى»، فى ديسمبر من العام الماضى، حيث إن لجنة تقصى الحقائق كانت قد توصلت إلى وثائق تؤكد تورط الإخوان فى ملف تسفير الشباب إلى بؤر الإرهاب، وتتعلق بشخصيات بارزة فى الدولة والأحزاب وقيادات أمنية وسياسية فاعلة زمن حكم «حركة النهضة» لتونس. هذا التورط تمثل فى أنشطة دعوية؛ تكفلت بعملية «غسيل أدمغة» للشباب جرت على الأراضى التونسية فى مدنها وقراها قبل تسفيرهم إلى سوريا، وثبت أن المدعو «رضا الجوادى» القيادى فى النهضة والسياسى «الحبيب اللوز»، من خلال بعض الجمعيات الأهلية قريبة من الإخوان المسلمين هى التى أشرفت على هذه المرحلة التمهيدية. ومن ثم انتقل الأمر بعد ذلك إلى قيادات أمنية «سهلت» عملية التسفير عبر تدليس إجراءات استخراج جوازات السفر للشباب، وبعدها يأتى ضلوع جمعيات وأحزاب سياسية وشركات تابعة للإخوان فى تمويل عملية التسفير. تنظيم وتوزيع الأدوار كان مثيرًا ومعقدًا إلى حد كبير، ومنظومة العمل كشفت عن منهجية كانت تدار تحت غطاء «حركة النهضة» وبحماية مباشرة منها باستخدام سلطة الحكم فى الدولة حينذاك، فأحد من جرى إيقافه وخضوعه للتحقيق «محمد فريخة» رجل الأعمال الكبير، لوجود شبهة فى تورط شركة «سيفاكس إيرلاينز» للطيران المدنى التى يمتلكها، فى عملية نقل وتسفير الشباب التونسى إلى تركيا فى رحلات منتظمة، قبل وصولهم إلى العراق وسوريا؛ للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية المتفق عليها مع قيادات حركة النهضة!
«لجنة مكافحة الإرهاب» فى تونس؛ كانت قد وثقت وجود أكثر من «٣٠٠٠ تونسى» مسجل إرهابى فى كل من سوريا وليبيا والعراق حتى عام ٢٠١٨، عاد منهم مؤخرًا إلى تونس قرابة ١٠٠٠ شاب. فيما تصل التقارير الأممية بالعدد إلى ما يتجاوز «٦٠٠٠ إرهابى» يحملون الجنسية التونسية، ثبت لديها انخراطهم فى صفوف تنظيمات إرهابية موزعة بين العراق وسوريا واليمن وليبيا ومالى. هذه الأرقام الصادمة تكشف عن حجم أخطبوط الفساد المتورط فى تسفير هذا العدد من الشباب التونسى، بل وتوريطه فى الداخل أيضًا بارتكاب عمليات إرهابية واغتيالات داخل تونس، على غرار عملية الهجوم على «متحف باردو» فى ٢٠١٥، التى تورط فيها إرهابى عائد من سوريا استهدف فيها أفواجًا سياحية بمدخل ومحيط أهم مزار سياحى بالعاصمة. تلك الفترة كانت «حركة النهضة» تحول تونس فعليًا لمنصة لتعبئة الإرهابيين عبر جهازها الدعوى، ومن ثم تستثمر فيهم قبل وبعد تسهيل تسفيرهم إلى بؤر التوتر والصراع المنخرط فيها التنظيم الدولى للإخوان بصورة أو بأخرى.
أصدرت النيابة العامة فى تونس الثلاثاء من هذا الأسبوع فى أولى جلسات التحقيق، قرارًا بتوقيف «على العريض» نائب رئيس حركة النهضة، وإحالته مباشرة إلى القطب القضائى لمكافحة الإرهاب، وكان على العريض قد تولى حقيبة وزارة الداخلية فى الفترة من ديسمبر ٢٠١١ إلى مارس ٢٠١٣، خلال حكومة الائتلاف بين حركة النهضة وحزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» و«التكتل الديمقراطى من أجل العمل والحريات». كما تولى العريض رئاسة الحكومة فى الفترة من مارس ٢٠١٣ إلى يناير ٢٠١٤، مما يجعله قريب الصلة بأحداث تلك القضية على نحو كبير، وقد تكون هناك أدلة دامغة تفوق مجرد التسهيل أو التغاضى عن وقائع ما كان يجرى فى عملية التجنيد والتسفير، وربما لهذا ظهر كنموذج لإدارة الفساد السياسى والأمنى الذى صاحب القضية ومثُل أمام القضاء كأول متهم محتمل، رغم منصبه الرفيع فى الحركة، حيث يمثل فيها الرجل الثانى مباشرة بعد راشد الغنوشى. الغنوشى بدوره خضع لنفس جلسة التحقيق الأولى التى شهدت احتجاز العريض فى نهايتها، وقد جرى صرفه بعدها لظروف تقدمه فى السن، وسيستكمل الإدلاء بأقواله ومواجهة الاتهامات الموجهة إليه وإلى الحركة خلال الأيام المقبلة.
السلطات التونسية أعلنت عن أن دائرة القضاء المختصة بمكافحة الإرهاب على خلفية ما تحت يديها من وثائق وإفادات أمنية، أمرت بتجميد الأرصدة المالية والحسابات المصرفية لعشر شخصيات، من بينها راشد الغنوشى ورئيس الحكومة الأسبق «حمادى الجبالى». كما أن الغنوشى ممنوع من السفر إلى خارج البلاد بقرار من السلطات القضائية، صدر هذا منذ مايو الماضى، حيث يجرى التحقيق معه أيضًا فى قضايا ترتبط بتلك القضية، وإن كانت لها تفاصيل فساد أخرى، لها علاقة بجرائم «غسيل أموال» ثبت تورط جمعية خيرية تابعة للحركة فيها، قدم لأجهزة التحقيق ما يثبت ارتباطها بما يعرف بـ«الجهاز السرى» الذى قام بعمليات الاغتيال السياسية، التى راح ضحيتها كل من شكرى بلعيد ومحمد البراهمى فى ٢٠١٣.