كيرة والجن في مواجهة المملكة
رحلت ملكة (بريطانيا) التي حكمت بلدًا ظن أهله أنها وأنهم باقون لأبد الآبدين، فماتت الملكة كما يموت الناس وهي الملكة السادسة في تاريخ بريطانيا بعد ٧٠ عامًا من الحكم لتصبح صاحبة الحكم الأطول في تاريخ بريطانيا وثاني أطول ملوك العالم حكمًا في التاريخ بعد ملك فرنسا (لويس الرابع عشر).. وكانت (اليزابيث) هي الملكة الدستورية ليس فقط لبريطانيا بل لمجموعة الكومنولث التي تضم ما يقرب من ٥٣ دولة وعاصرت ما يقرب من ١٥ رئيسًا للوزراء من بينهم (تشرشل).
فالامبراطورية الاستعمارية الامبريالية التي قامت على فكرة احتلال اراضي الغير وكانوا يملكون الأراضي ومن عليها كي لا تغيب عنهم الشمس! قامت على فكرة الدم واستحلاله واستباحة أراضي الغير وزرع الدسائس والمؤامرات هنا وهناك فسطت – باحتلالها - على ما يقرب من نصف الكرة الأرضية لترصع تاجها بجواهر مسروقة وممزوجة بدماء شعوب ضحت وراح ضحاياها من أجل التحرر الوطني.
وكان لمصر نصيب كبير من ذلك الاعتداء والتعدي خلال فترة الاحتلال البريطاني لبلادنا وحتى بعد الجلاء، وكأن بريطانيا العظمى أبت أن ترحل دون أن تزرع في وادينا الأخضر نبتةً سامة تعرف اعلاميًا بجماعة الإخوان المسلمين التي تأسست على يد بريطانيا في عام ١٩٢٨.. فكانت الجماعة التي خرجت من عباءتها جميع صنوف الإرهاب ليعم الشرق كله بل والعالم!
وعلى الجانب الأخر زرعت امبراطورية الشر تلك - والتي لم تكف عن ممارسة الشر المطلق والمجاني ليوم واحد في تاريخها وحتى يومنا هذا - كيان ديني عنصري فاشي لا يقبل الأخر ويمارس العنصرية والقتل والذبح والمجازر منذ أن منح من لا يملك وعدًا لمن لا يستحق فكان وعد (بلفور) المشئوم لتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين عام ١٩٢١ وليس غريبًا أن تنحدر ملكة بريطانيا السادسة من عائلة روتشيلد اليهودية وتتزوج من أدنبره الملك (فيليب) والذي ينحدر هو أيضًا من عائلة (راكافيلر) وتنصهر العائلتين معًا لتأسيس امبراطورية تريد الهيمنة على اقتصاد العالم منذ القرن الثامن عشر وتحديدًا عام ١٧١٧ حيث تم تأسيس أول محفل ماسوني في قلب العاصمة البريطانية والذي منح البنك الدولي الذي يمارس الاقراض وسياسات الإفقار في العالم الثالث بل والعالم كله أرضًا ليصبح له موطىء قدم لنستفيق جميعا على نظام عالمي جديد يحاك له منذ قديم الأزل ويتقدم ويتطور ذلك النظام عامًا بعد عام باختراع كوارث وويلات وحروب وتقسيم لدولٍ وأراضٍ وتدمير جيوش وإلقاء قنابل نووية وزرع الطائفية والأصولية وكل ما أصاب البشرية من شر على مدار حقب زمنية عديدة كان آخرها جائحة كورونا وما تبعها من لقاحات وشرائح وصولاً لجدري القرود ومازال القوس مفتوحًا للتخلص من أكبر عدد ممكن من سكان الأرض عبر الأوبئة والحروب والصراعات الطائفية والإرهاب.. وكل ذلك - وعلى ما يبدو - ليس كافيًا فيتوقع العالم شتاءً ملىء بالمآسي والأزمات الاقتصادية العالمية وانهيار للانظمة المصرفية واقتصاد غالبية الدول.
أما ما يخص الشأن المصري الداخلي والمجتمعي فقد مارست بريطانيا أثناء احتلالها لمصر عدد لا بأس به من الجرائم التي لم نكن واعون بالقدر الكافي لفضحها وتسويقها للعالم المعاصر كما نجح اليهود في الترويج للهولوكوست وناضل الأرمن للاعتراف بالمذابح التي مورست في حقهم ويطالبون الآن بحقوقهم ويطالبون بتعويضات.
حتى جاء فيلمًا مصريًا من انتاج شركة تنتمي للدولة المصرية - ليس فقط ليرصد - بل ليسجل تاريخًا مشرفًا من البطولات الشعبية التي تصدت للاحتلال الانجليزي وتوثيق جرائمه التي لا يعرف غالبيتنا عنها شيئًا سوي حادثة (دنشواي) المأساوية.
فأطلعنا الفيلم على العديد من الجرائم الموثقة بشخوصها وتواريخها لنعرف أكثر عن تاريخنا النضالي ضد الاستعمار البريطاني وما فعله في بلادنا ومواطنينا منذ حادثة دنشواي مرورًا بصفحات أخرى ناصعة في تاريخنا النضالي وصفحات سوداء في تاريخ بريطانيا العظمى التي يجب ان تستحي مما فعلته في الهند ومصر وجميع الدول التي احتلتها.
ويرصد الفيلم وبطبيعة الحال ثورة ١٩ التي قامت ضد المحتل ورفع فيها شعار وطني يدعو للانصهار في بوتقة وطنية واحدة تعبر بشكل حقيقي عن وطن للجميع يعرف معنى المواطنة ويطبقها في الواقع مرورًا بما حدث في عشرينيات القرن الماضي والطابع الكوزموبوليتاني الحقيقي الذي ظهر جليًا عند تكوين فريق سري من الفدائيين المصريين ضم جميع فئات وأطياف الشعب من فلاحين وصعايدة وأفندية.. نساء ورجال.. مسلمين ومسيحيين ويهود حتى الخواجات والعوالم والعاهرات والبلطجية شاركوا في المقاومة وكانت لهم أدوار بطولية وعمليات فدائية واغتيالات لظباط الاحتلال من اجل جلاء ذلك الاستعمار وإن كلفهم الأمر حيواتهم فكان شعار (الاستقلال التام أو الموت الزوئام) وامتزج الهلال مع الصليب في مشهد احتفال الفدائيين بالعيد المصري الأصيل (عيد شم النسيم) واجتماعهم على مائدة واحدة.
ضمت وجبة المصريين القدماء الشهيرة في ذلك التوقيت من العام وهي (الفسيخ) المصري الذي كان حاضرًا إلى جانب (البيرة) والتي كانت مشروبًا شائعًا وغير معيب لكل فئات المجتمع في ذلك التوقيت، وبحماسة الفدائيين تعالت أصواتهم مجتمعةً لترديد أغنية الشيخ (سيد درويش) الوطنية والمتيقظة كغالبية أعماله للفتن والدسائس وسياسة فرق تسد والتي اشتهرت في عشرينيات القرن الماضي وأسس لها وبجدارة الاحتلال البريطاني وهي أغنية بعنوان (ايش دخل دنيانا في ديننا) وبعض كلماتها تقول (غيرشي اللي كان هالك أبداننا ومطلع النجيل على عينا، إن فهمي يكره حنا وايش دخل دنيانا في ديننا) وهي كلمات تعبر بصدق عن فكرة اللحمة الوطنية ضد الطائفية ومع فكرة البوتقة الوطنية الواحدة التي تضم كل المواطنيين وتقف على مسافة واحدة من الجميع.. فالدين لله و الوطن للجميع.
وكان قائد فريق الفدائيين هو الطبيب (أحمد كيرة) (كريم عبدالعزيز) وهو شخصية حقيقية اشتهرت بموالاتها للانجليز في العلن والنضال ضدهم سرًا واستغل عشق بنت الجنرال الانجليزية (إيميلي) له والتي قامت بدورها الممثلة اللبنانية (رزان جمال) واجادت اللكنة الانجليزية كما تتحدث بها الملكة اليزابيث وجميع حاشيتها وأبناء جلدتها، ليعرف (كيرة) منها خط سير الكولونيل (دوجلاس) لاغتياله بمساعدة رفيقه (عبدالقادر الجن) (أحمد عز) وهو أيضًا شخصية حقيقية تمامًا مثل شخصية (دولت فهمي) (هند صبري) والتي قامت بأداء دور الفتاة الصعيدية القبطية المسيحية التي لم تستطع التغلب على عادات المجتمع وتقاليد أهل الصعيد القاسية في تعاملها مع النساء في حين نجحت في المشاركة في حركة التحرر الوطني المسلحة وحققت انتصارات فيها حتى قتلت - بيد أخيها- لا بيد المحتل! والذي ثأر لشرفه منها في إشارة واضحة لبشاعة قضايا الشرف وقتل الفتيات في الصعيد في ذلك التوقيت وحتى الآن.
واستعرض الفيلم كذلك (مذبحة الأزهر) والتي لا يعرف عنها غالبية المصريين شيئًا إلى جانب تجنيد المصريين وضمهم لجيش الاحتلال عنوةً ليعملوا فيه بالصخرة - وليس فقط بدون أجر- بل كي يقتل المصري البرىء - الذي لا حول له ولا طول - أخيه وابن بلده بيده طاعةً لأوامر المحتل الذي كان يجبر المصريين على ذلك ويستخدمهم كدروع بشرية وكمحاربين يقتلون بعضهم البعض ومن يرفض إطاعة الأمر يقتل فلا خيارات! (فإما ان تقتل أنت أخيك بيدك أو أن تقتل برصاص الضابط الإنجليزي في حال رفضك إطاعة الأمر).
هكذا عاني المصريون من الاحتلال البريطاني ونقل الفيلم ذلك الواقع المرير بدقة وتمحيص تاريخي في سيناريو مأخوذ عن رواية للكاتب الشاب (أحمد مراد) وهي رواية (1919) وبرع في تنفيذ السيناريو المخرج (مروان حامد) والذي يتقن استخدام ادواته دوماً في كل أفلامه ويأخدها على محمل الجد.
وبعد نجاح جميع عناصر الفيلم في توصيل رسالته وتأثر الجمهور والمتلقي بالعمل الصادق الجيد خرج من شاهد الفيلم وهو يعرف الكثير عن بطولات شعبه وعن جرائم الاحتلال الانجليزي في حق ذلك الشعب وفي حق وطننا وهي جرائم لا تسقط بالتقادم.. فشهدائنا لهم في رقابنا حقوق.
وكما يطالب الارمن تركيا والعالم الان بالاعتراف بالمذابح ومن ثم يطالبون بتعويضات عن تلك المذابح التي ارتكبها العثمانيون في حقهم.. أظن انه قد آن الاوان للدولة المصرية خاصةً بعد تولي الامير تشارلز الثالث مقاليد الحكم في بلاده وأصبح ملكاً لبريطانيا في عمر ال ٧٣ ان يقوم بتعويض أسر الضحايا والشهداء الذين سقطوا على ايدي تلك الامبراطورية التي غابت عنها الشمس لكنها مستمرة في زرع الارهاب والمكائد في الشرق الاوسط بإيوائها للارهابيين على أراضيها!
فإن أرادت بريطانيا فتح صفحة جديدة مع الشرق ومع مصر وأن تغسل أياديها من عار الاستعمار والاحتلال والقتل والدم وأن تبدأ عهداً جديداً أشرف وأنبل وأقل دموية وأقل شراً مما سبق فعليها النظر في كل ما فعلته في البلدان التي احتلتها وقسمتها وزرعت الفتن فيها وساعدت على نشأة الطائفية بين أطيافها لتتناحر وشجعت وأوت الجماعات الارهابية المسلحة.
على كل هذا أن ينتهي وأن تدفع بريطانيا كذلك تعويضات مستحقة لعائلات كل من تأذى واغتيل في عهد ذلك الاحتلال الغاشم.. فالدولة المصرية متيقظة لحقوقها وكل ما يحاك لها في الخفاء وفي العلن وتعلم جيداً أن التنظيم الدولي للاخوان يترعرع على ارض بريطانيا التي خلقته ثم احتضنته !
وهكذا تكون قد اسهمت احدى الشركات المصرية الوطنية التي تنتمي للدولة المصرية في انتاج فيلمًا هامًا متقن الصنع قوي الدلالة يروي صفحات ناصعة في تاريخنا النضالي التحرري ضد المحتل وتذكر بريطانيا بعار ما اقترفته في حق بلادنا وأبنائنا ويفسح المجال لمصر للمطالبة بحقوقها ولبريطانيا كي تراجع نفسها في عهدها الجديد.. فالعالم كله يتغير من حولنا وعلى سياسات تلك الدولة أن تتغير أيضًا وتواكب ما تتشدق به دومًا من حقوق وحريات للانسان .