التهديد العالمى للإخوان المسلمين «٣»
فى الجزأين السابقين تناولنا أهم ما جاء بالكتاب الأمريكى الذى صدر مؤخرًا بالولايات المتحدة، مستندًا إلى التقارير البحثية المعمقة التى أعدتها اللجنة الفرعية للأمن القومى الأمريكية التابعة للجنة الرقابة والإصلاح فى الكونجرس، بهدف كشف التهديدات التى تشكلها جماعة الإخوان المسلمين على العالم وليس على الداخل الأمريكى فحسب، ولذلك عنون الكتاب بـ«التهديد العالمى للإخوان المسلمين».
آلاف من الوثائق والتقارير الاستخباراتية وتحليلات مراكز الدراسات المتخصصة، قدمت للجنة ما يمكن اعتباره أرشيفًا هائلًا يضم معظم الخيوط والمسارات التى صنعت تلك الشبكة المهددة، للسلم والأمن الدوليين، مما استلزم قضاء عشرات الساعات فى جلسات استماع، قبل دفع الكتاب للطباعة وإتاحته للنشر على نطاق واسع دوليًا وبلغات عدة لاحقًا.
فى هذا الجزء وبعد استعراض التقرير النمساوى الذى استند إليه الباحثون، وورد بالكتاب كى ينقل الصورة الواقعية لأنماط التغلغل والتأثير التى صنعتها الجماعة فى البلدان الأوروبية. يلفت النائب الجمهورى بالكونجرس «بول جوسار» فى إحدى جلسات الاستماع إلى أمر بالغ الأهمية مما دفع إلى توثيقه بداخل الكتاب، وهو وفق ما ذكره النائب يرى أن فشل الاستراتيجية الأمريكية تجاه جماعة الإخوان المسلمين يتأتى من عوامل عدة، حيث تكمن إحدى الصعوبات الأساسية فى التعامل مع الإخوان المسلمين حقيقة أنهم أنشأوا كياناتهم المستقلة الخاصة، التى يتخفى الكثير منها وراء واجهة المؤسسات القانونية المحترمة؛ مثل المدافعين عن الحقوق المدنية، والجماعات المجتمعية، والجمعيات الخيرية. فالثابت أن الجماعة منذ نشأتها فى عام ١٩٢٨، كانت وظلت حركة سرية طائفية لديها منظمة دولية تسمى «التنظيم الدولى»، ورغم مرور عقود على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين المصرية، فلا يزال هذا الهيكل قائمًا، ليس كهيكل قيادة هرميًا يصدر توجيهات إلى فروعه العالمية فحسب، بل أيضًا بطريقة العقدة المركزية لشبكة موزعة تدفع جميعها فى اتجاه عام واحد، ونحو هدف عام واحد. ومن ثم يصل الباحثون ومحللو الاستخبارات وآخرون إلى أنه ليس مهمًا إذا كان فرع محدد من الإخوان متورطًا وحده فى النشاط الإرهابى، ذلك أن البقية توفر له الدعم الأيديولوجى والمادى، بشكل تبادلى خفى للفروع التى تقوم بذلك وتستفيد منه الجماعة بشكل كلى عام.
وهنا كان النموذج الذى أخضعته اللجنة للفحص والتحليل هو حالة منظمة «الإغاثة الإسلامية» «IR» باعتبارها مؤسسة خيرية دولية كبيرة للمساعدات، أسسها فى لندن أعضاء بارزون فى جماعة الإخوان المسلمين المصرية، وظلت طوال الوقت تمارس حالة عدوانية متقدمة ضد منتقديها. والواقعة التى ربما لفتت الانتباه بشكل كبير داخل المملكة المتحدة، عندما تسبب تقرير نشره «المركز الدولى لدراسة العنف والراديكالية والعنف السياسى» فى كينجز كوليدج لندن، كتبه الدكتور «ديمون بيرى» الخبير فى التطرف، فى تدمير سمعة المؤسسة الخيرية الإسلامية، عندما خلص إلى أن ادعاءات الاعتدال زائفة كليًا، بالنظر إلى التأكد عبر أجهزة الاستخبارات البريطانية أن هناك تعاونًا وثيقًا بين المنظمة ووكلاء منظمة حماس الإرهابية حسب توصيف الأكاديمى البريطانى، فضلًا عن اتصال مسئوليها بالجماعات الإرهابية والمتطرفين الآخرين. كما استند أيضًا إلى ثلاثة تأكيدات أوروبية لا يجوز إغفالها، منها التصريحات العلنية للحكومة الألمانية أن منظمة الإغاثة الإسلامية لها «علاقات مهمة» مع جماعة الإخوان المسلمين، فضلًا عن تقرير للحكومة السويدية توصل إلى استنتاجات مماثلة، كما أصدر فى أبريل ٢٠٢٠ المجلس الإقليمى فى لومباردى بإيطاليا قرارًا يدين منظمة الإغاثة الإسلامية لاستضافتها دعاة متطرفين. وقد دفع هذا الإصدار الإيطالى الأخير لجنة المؤسسات الخيرية فى المملكة المتحدة، إلى فتح تحقيق موسع خاص باستضافة مماثلة داخل الفرع الرئيسى للمنظمة فى لندن، لدعاة من ذوى التاريخ الطويل فى إنتاج وبث خطاب الكراهية المعتمد لجماعة الإخوان المسلمين، مما جعل الإعلان الإيطالى بمثابة جرس إنذار دفع السلطات البريطانية لاتخاذ ما يلزم تجاه المنظمة، حتى وإن كانت وفق اعتبارات السماح القانونى بالوجود فى بريطانيا، تسمح لها بالعمل على الأراضى البريطانية لكنها قامت منذ فتح هذا التحقيق بمنع هذا النشاط، الذى كان يمارس قبلًا بشكل سرى تحت غطاء المنظمة الخيرية.
بالعودة إلى جزء تحليلى عن هذا الأمر مما جاء بالكتاب الأمريكى؛ حيث اعتبر أن النقطة الأساسية المتعلقة بصناعة تمويل الإرهاب الراديكالى، ليست أن الأموال القانونية الخيرية وغيرها تمول الإرهاب بشكل مباشر، لكن المتطرفين فى الغرب يستغلون مرونة قابلية التبادل المالى للشبكات الإرهابية. حيث فى الغالب الأعم تتضمن هذه الموارد المالية وظائف «مشروعة»، غالبًا ما تستند إلى أعمال التجارة والجمعيات الخيرية، التى فى نفس الوقت مصممة لدعم أهدافهم العنيفة بشكل عام. هذا ما أكدته المبادئ التوجيهية لوزارة الخزانة الأمريكية بخصوص تلك الحقيقة التى صار لها عشرات ومئات من الأدلة الموثقة فى داخل الولايات المتحدة وخارجها، ونص توجيهها على ما يلى: «يجوز قياس خطر الانتهاك الإرهابى الذى يواجه المنظمات الخيرية، عبر استغلال الخدمات والأنشطة الخيرية لتعزيز تطرف الفئات السكانية الضعيفة، وتحويل الدعم المالى المخصص للأنشطة الخيرية إلى المنظمات والأنشطة الإرهابية». وكما أن منظمة «IR» تسعى جاهدة طوال الوقت لتنكر أن لها أى علاقة بجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن الكتاب الأمريكى بهدف دحض هذه المزاعم أورد نموذجًا مصريًا شهيرًا ليدلل على عمق ومركزية الارتباط، وكان هو القيادى «عصام الحداد» عضو مكتب الإرشاد فى جماعة الإخوان، وباعتباره مسئولًا كبيرًا أيضًا فى التنظيم الدولى وفق ما ذكره الكتاب الأمريكى. حيث ذكر عن الحداد أنه ظل يرتقى فى الرتب التنظيمية لسنوات، قبل أن يقضى عدة سنوات كعضو فى مجلس الإرشاد الأعلى كسلطة تنفيذية للجماعة، قبل أن يصل الحداد ليصبح بمثابة وزير لخارجية محمد مرسى رئيس جماعة الإخوان المسلمين فى مصر قبل الإطاحة به فى ثورة الشعب المصرى عام ٢٠١٣. واستشهاد الجانب الأمريكى أن الحداد أجرى العديد من الاجتماعات التنظيمية مع قادة ومجلس إدارة منظمة الإغاثة الإسلامية، فى تلك الفترة التى كان يتحرك فيها بين عواصم العالم المختلفة الغربية بالخصوص، وقت كان يتصور أنه يدير جميع أنشطة الجماعة الخارجية، على الأقل يقوم بدور المنسق قريب الصلة من مراكز صنع القرار فى الدائرة الضيقة العليا.
شواهد وإشارات أكثر مما يمكن حصرها داخل هذا الكتاب الأمريكى المهم، الذى ولأول مرة يقدم جميع تلك المعلومات الاستخباراتية الشاملة داخل الولايات المتحدة، وخارجها فى ساحات الدول الغربية الحليفة بالقارة الأوروبية، ويكتسب أهميته بلا شك من صيغة الخطاب الجديدة الكاشفة لتلك الحقائق والاستنتاجات التى كانت محل جدل، فيما يتعلق بإشكالية تهديد جماعة الإخوان، هل هى حقيقية وذات ارتباط مباشر بالإرهاب وغيره من النشاطات المالية الضخمة المغذية من عدمه، وأظن الكتاب بمصداقية وجدية تمكن من الإجابة بصورة قريبة الصلة بالواقع الذى ظل مراوغًا لعقود.