التنمر والبؤس العام
التنمر كمصطلح ظهر وانتشر حديثًا في مصر وصرنا نسمعه ويردده كثيرون، أما حالات التنمر فهي قديمة قدم الأهرامات.
ولوحظت ومورس التنمر على أهل الفن وبالتحديد منذ سنوات مضت، وبعد تغييرات طرأت على ثقافة وذهنية المجتمع وجعلته يكره الجمال ويكره الحياة، ويؤثر الموت على الحياة الدنيا!
وكان للفنانة الراحلة صباح «الشحرورة» نصيب الأسد ليس فقط من التنمر بل تمني الموت، وشائعات الموت التي طاردتها وطاردت غيرها!
فثقافة الموت في مجتمعنا وللأسف تنتصر وتعلو دومًا على ثقافة الحياة! وهذا شيء خطير وبائس يعبر عن حالة من «البؤس العام» نعيشها ويتأذى بها أهل الفن في المقام الأول ومعهم نساء هذا المجتمع، واللاتي أصبحن يتعرضن ليس فقط للتحرش والاغتصاب وهتك العرض.
بل وصل الأمر للقتل والانتحار فقتلت وانتحرت أكثر من ١٠ فتيات وسيدات في أقل من عام واحد في حوادث مختلفة ومتفرقة تصب جميعها في مصب واحد أسميه (البؤس العام)، والمجتمع الذي صار خطيرًا وصار غير مناسب أو ملائم بل وطاردًا للإناث!
وبعد كل هذا البؤس المجتمعي العام.. وفي مراسم عزاء لا مهرجان على حد تعبير أيقونة الجمال الشرقي الممزوج بمسحة غربية وأقصد الفنانة الجميلة «ميرفت أمين» والتي تعرضت لتنمر مقزز ومورس عليها غبن وقدر كبير من اللزوجة يسخر من ملامحها، وقد خط الزمن عليها خطوطه ونحمد الله أنها ما زالت بيننا على قيد الحياة وتتمتع بالصحة والعافية والجمال، فالورد وإن ذبل يظل زهرًا يسر الناظرين ممن لم يفقدوا بصيرتهم بعد.
وذات التنمر الذي مورس على الفنانة «صباح» ومورس اليوم على الفنانة «ميرفت أمين» مورس من قبل على صديقة عمرها الفنانة الأنيقة الجميلة «رجاء الجداوي» إذ سخر بعض الشباب من الحزن على رحيلها في سن الثمانين بكتابة عبارات مثل «ده اتخطفت يا عيني»، وكانت من أوائل الفنانات اللاتي رحلن في زمن الكورونا التي فتكت وأودت بحيوات أحبائنا وودعناهم، كما بشرنا بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا العظمى الأسبق!
وبعد أن أودت كورونا بحيوات كثير ممن نحب صار الآن تمني الموت وممارسة فعل القتل وارتكاب الجرائم في حق النساء وكراهيتهن كراهية التحريم المرتبط بالطبع بالكبت والعجز والفقر والرغبة في الانتقام من الأنثى في المطلق «خاصة إن قالت لا للذكر» أو كانت صعبة المنال وصار الأمر لافتًا للنظر لحد البؤس بل صار ظاهرة لا بد من دراستها والتنبه لها جيدًا، وبالطبع نجمات الشاشة هن رمز الجمال والألق الذي يحلم به الشباب المكبوت.
والذي يعي أنه لن يطاله ولن يكون له في الواقع وهذا حال النجوم والنجمات في كل بقاع الأرض أما في مجتمعنا فصارت النجمة التي يراها المكبوت على الشاشة ويظنها نجمة في السماء لن يطالها.. تكون السماء هي الأولى والأحق بها وعليها أن تصعد للسماء وأن ترحل وتترك له الأرض، رغم أن رحيلها لن يغير واقعه ولن يحل مشاكله أو أزماته، لكن مجرد رحيل تلك النجمة شيء يسعد ذلك المكبوت ويريح قلبه.
ومن ثم تم طرح منطق ما «لا منطقي بالطبع» يفاضل بين الشباب وكبار السن في مناحٍ شتى، طرح عجيب في حقيقة الأمر يستوجب التأمل ويطرح بدوره تساؤلات عدة:
- فهل ليعيش هذا لا بد وأن يرحل ذاك؟
- لماذا يرى بعض الشباب- ولا أقول الكل- أن تمكينهم وتحققهم يعني التخلص من النساء، وبالتحديد أولًا ثم من سبقوهم بسنين خبرة تراكمية؟
- هل ليعيش الشاب الذكر عليه أن يميت الأنثى أو يقتلها؟ أو يكون عليه أن يميت ذويه مثلًا أو من يكبرونه في العمر؟
- هل حياة الشاب ستستقيم إن قتل من لا ترغبه ومن لن يطالها؟
- ولماذا يرى البعض أن العصر هو عصر الشباب وأن الكبار مكانهم القبور؟
- أو ليست الحياة حق للجميع؟ لكل الكائنات الحية؟
- هل أعمارنا ستزيد إن نقصت أعمار غيرنا؟
وبما أن الناس لهم أعمارهم وكل له توقيته وأوانه في البقاء وفي الرحيل.. فلماذا يطالب أو يتمنى البعض رحيل البعض ليبقى هو؟ وهل توجد قاعدة راسخة تقول بأن الموت لصيق الصلة بسن بعينه؟
وهل الصدفة القدرية التي جعلت من إنسان ما صادف ميلاده مثلا زمن الخمسينيات من القرن الماضي يكون هو الأجدر أو الأقرب للموت؟ أما من شاء له القدر أن يولد مع بداية الألفية الجديدة يكون هو الأحق بالحياة؟
من الذي يستحق الحياة؟ الإجابة: نحن.. كلنا نستحق الحياة.. كلنا نستحقها.. وكلنا تعني الجميع، كلنا في حق الحياة سواء وذلك الطرح لا يرحب به بعض الشباب من مدعي الثورية أو الحماسة والكارهين لنسق الدولة بمفهومها العمودي فهؤلاء في الأغلب يقدمون طرحًا عجيبًا يشترط لبقائه فناء غيره.
إذ يرى هؤلاء قيمة كبيرة للشباب فقط ويحاربون من أجل ذلك ومن أجل أنفسهم وكأنهم يريدون مستعمرة خاصة بهم يعيشون فيها بمفردهم أقرب لفكرة «الجيتو» ويحرمونها على من يكبرونهم في العمر! وأن تحقق لهم ذلك كفرضية ماذا سيفعل هؤلاء بعد مرور ٣٠ عامًا أو أكتر على إقامتهم في مستعمرتهم الشبابية تلك؟
إذ سيتحول البعض منهم حتمًا لكهول وشيوخ مسنين فماذا سيفعلون حينئذٍ؟ هل سيطلقون على أنفسهم رصاصات الرحمة بعد أن شاخوا لأن الحياة جعلت فقط للشباب؟ وللعلم فقد كتب أحد الشباب المتحمس لجيله العشريني منذ حوالي ٨ سنوات على أحد مواقع التواصل الاجتماعي مقترح يقول بإعدام كل من هم فوق الثلاثين كي ترحل دولة العواجيز! وكتب الشاب اقتراحه هذا وعمره ٢٢ عامًا، وبالتالي هل يجوز لنا الآن تنفيذ حكم الإعدام فيه في يناير ٢٠٢٣؟ أم أن من يقترح اقتراحًا ويطرحه للحوار المجتمعي على صفحات التواصل الاجتماعي لديه حصانة خاصة ضد مقترحه الذي يود تنفيذه على الآخرين ولن يبدأ بنفسه؟
مثل تلك النماذج وببساطة لا تعرف قيمة للإنسان ولا تثمن قيمة الحياة ويكره الكثير منهم الأنثى ويحتقرونها وإن أظهروا عكس ذلك ولا يعرفون قيمة الروح وأنها سر إلهي، وإن زهق الروح شأن إلهي بحت لا دخل لبشر فيه إلا بحكم قضائي هؤلاء لا يدركون أن أعمارنا ما هي إلا أرقام، وأن لا فضل لهذا على ذاك بناء على رقم في شهادة الميلاد أو الوفاة ليحدد الفرد لغيره كم السنين التي يجب له أن يعيشها!
وكأن ألم الفقد وقيمة الروح والحق في الحياة مقصور وحكر على الشباب فقط وها هو التنمر يطال الفنانة «ميرفت أمين» بسبب علامات السن التي ظهرت على وجهها الفتان، إنه طرح أناني وشرير وشديد الرعونة والفجاجة ينبؤ بشىء يعلق حياته على رحيل غيره، ويتمنى وينتظر ذلك الرحيل! لتتحقق له أكبر المكاسب في أقصر وقت ممكن وبأقل جهد ممكن أيضًا.
دون أن يدرك ما مر به ذلك المسن أو تلك المسنة من مصاعب وتجارب بعضها قاسٍ حتى وصل لما هو فيه أو عليه الآن، إذ يعشق هؤلاء حرق المراحل ويحرقون معها إنسانيتهم وقوارب النجاة التي قد يقفزون إليها لتغيثهم،
فذوينا ومن يكبروننا في العمر هم قوارب نجاتنا، هم المرفأ الذي نأمن له ونستظل به وبدونهم نصبح كأوراق الشجر التي ستشيخ حتمًا في يوم ما وتتساقط لتتلقفها الرياح وتتخبط بها يمينًا ويسارًا، فمن لا ماضي له لن يكون لديه حاضر ولا مستقبل، من لا يحترم عمر وخبرة من يكبره سنًا ولا يحزن على وفاة المسن ويتمنى له الموت وقد يمارس القتل في حق الغير.. في حين يشطاط غيظًا ويريد حرق المدينة إن مات شابًا يعرفه! يكون حرفيًا كائنًا أخرق ووجوده هو عبء على الحياة ولا يمكن أن يضيف إليها شيئًا مفيدًا أو بناءً.
كيف لنموذج كهذا أن يكمل حياته وهو لا يعي سنن التطور وقوانين السيرورة؟ وأن الجميع سيتقدم بهم العمر حتمًا.. الحياة تسير وتتقدم للأمام ولا تسير عجلات الزمن للخلف إلا في أفلام هوليوود الترفيهية أو العوالم الافتراضية التي تخلط الواقع بالخيال وبالافتراض لنعيش فيه ونكتفي به فنكره واقعنا ونحلم بالمستحيل، وبما هو غير كائن أو بآلة الزمن التي ترجع بنا للوراء أو تتقدم بهؤلاء للأمام وبسرعة الصاروخ وتعلو بهم بشكل سريع وفجائي ليكون سقوطهم أيضًا سريعًا فجائيًا ومدويًا، لأنهم يريدون السير عكس عقارب الساعة ولا يؤمنون بقانون السيرورة «قانون الحياة» التي لم تكن في يوم ما لهم وحدهم ولن تكون كذلك أبدية، وينصب ذلك وينسحب على الجميع شباب ومسنين.