البلادة الاجتماعية!
فيما مضى كان الناس يتزاورون، وكانت للزيارة طقوس محببة، من بينها شراء الهدايا للبيوت، ولو كانت رمزية وبسيطة، والطعام المشترك والشراب المشترك فالجميع على مائدة واحدة، وتعارف الصغار، وتحاور الكبار، واطمئنان الأهل على الأهل والأصدقاء على الأصدقاء.
كان الناس نشطاء من الناحية الاجتماعية، لا يتخلف قريب عن أقربائه بتة، بل إن الجيران كان بعضهم يسأل على بعض، وكان بينهم ما بين الأقرباء وأكثر.
دار الزمان وتبدلت الأحوال، انشغل الناس بأعمالهم وأموالهم انشغالا يناسب الظروف الاقتصادية الجديدة المعقدة، سواء كثرت الأعمال أو قلت وزادت الأموال أو نقصت، فالذي ساء مصيره كالذي حسن، كلاهما مشغول بما هو منغمس فيه، ونسي الجميع تقريبا أشياء كثيرة جميلة كانوا يفعلونها، وكانوا حريصين عليها، وضمن ذلك نسيانهم للتلاقي في دفء البيوت المعنوي، أو حتى خارجها!
مما ضاعف من التفسخ والابتعاد طغيان وسائل الاتصال والتواصل؛ فلماذا يتجشم المرء تكاليف زيارة، والاقتصاد كما وصفناه آنفا، ما دام يمكن أن يهاتف الآخر على الموبايل حيث كان؟!، ولماذا يزوره وهو يراه على صفحته في السوشيال ميديا ليل نهار؟!
لا يفهم الناس، أو لا يريدون أن يفهموا، أن المهاتفة لا تغني عن السلام الذي يجمع الأكف، وأن السوشيال ميديا لا تعكس الحقيقة ولكنها تعكس الصور، وكثيرا ما تكون الصور خلاف الحقيقة التي يجب السعي المادي إليها ولمسها بالأعين والأفئدة.
كانت مجتمعاتنا حميمة للغاية، ولم يكن الإنسان يشعر فيها بالغربة التي يشعر بها الآن، بل منذ أزمنة طوال، وإن كان شعوره بها يتضاعف الآن أكثر من ذي قبل؛ لأن القيم الطيبة تتراجع كلما تقدمت السنون، ومقدار ما يكسب الخلق مكاسب لا حصر لها، نتيجة للتطور، يخسرون خسارات فادحة نتيجة للتقهقر الأخلاقي والديني الذي يصاحب هذا التطور كأنه قرين له!
من المؤلم أننا كنا أرحب صدورا في ضيق بيوتنا الطينية المتواضعة، وأن
صدورنا ضاقت في رحبة بيوتنا الأسمنتية التي جللتها البراويز والديكورات، وأننا لم نعرف أن الإيمان بالحداثة (استخدام العلم والعقل والتكنولوجيا في التعامل مع الواقع أحد مفاهيمها الواضحة) لا يصح بالمرة أن يلغي إيماننا بالبساطة وأن يشوهه تشويها.. ولكن هذا ما جرى فعليا حتى بالغ أناس وذموا الحداثة كأنها السبب.
وفي الحقيقة لا سبب إلا الغفلة الإنسانية والأنانية والطمع، وما كان يجب إلا أن نؤمن بكل شيء يجعلنا أغنياء وأقوياء وذوي منعة، إلا الأشياء التي من شأنها أن تفتت اتحادنا وتصنع قي جدارنا الصلب شرخا عريضا فيصير ضعيفا ويؤول إلى الاضمحلال.
أيام الإجازات لا تزال موجودة، ووئامنا القديم الذي كنا يعصمنا من الهلكة، وكان يعزي أرواحنا، لا يزال متاحا؛ فلماذا لا نستعيد حياتنا الودود الغاربة مع أول فرصة قادمة؟! لماذا لا نتزاور بالأشواق الصادقة؟!