فقاقيع الهواء
لأسباب غامضة لدينا فهم محدود لمعنى الفساد.. أفلام السينما حصرت الفساد فى تيمات محدودة.. مأمور جمرك يتقاضى رشوة للسماح بمعلبات فاسدة!.. مسئول حكومى يرسى مناقصة على شركة مقاولات مقابل رشوة! تيمات حقيقية ولكنها قديمة.. كانت تعبّر عن صدمة صنّاع السينما من الانفتاح الاقتصادى ورغبتهم فى إدانته.. تطورت أشكال الفساد بعد ذلك وتضخم الفاسدون حتى أصبح الفساد مقننًا أو محميًا بالقانون كما قال الأستاذ حسنين هيكل فى وصف الوضع قبل يناير ٢٠١١، أحد أشكال الفساد المسكوت عنه هو فساد قطاعات من النخبة المصرية أو المثقفين بالمعنى العام.. فى النخبة شرفاء كما فيها فاسدون.. والسكوت كان يتم إكرامًا للشرفاء حتى لا يتم تشويههم أثناء الحديث عن الفاسدين.. أتحدث عن النخبة المدنية بتنوعاتها المختلفة، التى تم إفساد بعض قطاعاتها وفق مخطط محبوك ودفع المجتمع كله الثمن.. فى الستينيات كان المثقفون إما منخرطين فى مشروع الدولة للتغيير الاجتماعى أو معارضين بلا فساد.. معظم المثقفين اليساريين أيدوا مشروع عبدالناصر وهم فى سجونه وخرجوا لينخرطوا فى مؤسسات الدولة المختلفة ويعملوا من خلالها.. فى السبعينيات اختلف الوضع.. بعد حرب أكتوبر اختلفت السبل.. كثير من مثقفينا الشرفاء مارسوا المعارضة من داخل مصر.. ترشحوا فى انتخابات النقابات وعملوا من خلال الأحزاب وظلوا على أرض مصر ودفعوا الثمن.. بذرة الفساد بدأت مع لجوء البعض للمهجر، للدول التى كانت تناصب السادات العداء.. الحديث الشريف يقول: «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى».. البعض سافر لهدف نبيل والبعض أعجبته أموال الأنظمة الغربية.. هذه كانت بذرة الفساد والإفساد.. المال مقابل المبادئ.. بعض الذين سافروا أدركوا هذا وعادوا سريعًا مثل الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى الذى اختار أن يقول كلمته من وطنه.. بعض من كانوا معه فى باريس اختاروا طريقًا آخر وأسقطهم الناس من ذاكرتهم.. الكاتب الكبير صلاح عيسى كان فى الجمهورية مع كاتب آخر من جيله لا يقل لمعانًا عنه.. الكاتب الآخر سافر خارج مصر.. زلّت قدمه واختار طريق النقود.. عاد فى التسعينيات كرجل أعمال وهرب بعد أن أصبح مطلوبًا فى قضية شيكات دون رصيد.. صلاح عيسى كافح كرجل شريف من داخل مصر وحفر اسمه فى وجدان المصريين بعمله ومواهبه وباختياره أن يبقى داخل مصر.. للأسف استمر النهج الانتهازى بعد أن تبنى المسئولون فى زمن مبارك منهج الإفساد المنظم.. مع سقوط الاتحاد السوفيتى قررت الدول الغربية استيعاب المثقفين اليساريين فى العالم الثالث.. تم توجيه تمويلات ضخمة لحركة «حقوق الإنسان».. نزلت المنظمات الدولية إلى السوق المصرية تبحث عن زبائن أو عملاء.. كانت الإغراءات كبيرة.. وبدأ المثقفون المعارضون فى فهم قواعد اللعبة.. تبدلت الأحوال من الفقر إلى الستر ومن الستر إلى الثراء ومن الثراء إلى الثراء الفاحش.. تغيرت المساكن من شقق صغيرة فى أرياف الجيزة وحواف القاهرة إلى شقق واسعة.. ثم شقق أوسع.. ثم قصور فى التجمع وزايد.. كانت اللعبة فى زمن مبارك سهلة.. «افسد واسرق ما تريد مقابل ألا تزعجنا» خذ دولارات التمويل ونحن سنتركك ما دمت ستتركنا فى حالنا..! أصبحت الوصفة معروفة.. وتكاثرت المنظمات مثل الكوليرا والطاعون.. منظمات على كل شكل ولون «حقوق إنسان وحقوق مرأة وحقوق شخصية وحقوق سكن وحقوق تقاضى وحقوق سجناء وحقوق أطفال وحقوق لاجئين... إلخ» المهم أن يكون هناك تمويل والسلام.. كان هناك شرفاء يعملون بكل تأكيد لكنهم ضاعوا وسط طوفان من الفساد والإفساد المتعمد.. أصبح للتمويل سماسرة ووكلاء يُخلّصون المصالح مقابل أجر معلوم.. والذين كانوا فى الثمانينيات يسألون الله فى حق تذكرة الأتوبيس أصبحوا نجومًا وأصحاب ملايين كثيرة وفكروا فى غسل الأموال.. أسست شركات تجارية باسم الأقارب لتختفى فيها ملايين التمويل، وكان بعض رجال مبارك على علم ومباركة لكل شىء وفق القاعدة الشهيرة «يا عزيزى كلنا لصوص».. فى مرحلة تالية بعد ٢٠٠٤ تولت الصحف التى تم تأسيسها بأموال مبادرة «تشينى» تلميع هؤلاء وتحويلهم إلى رموز ثقافية وإعلامية.. وما زال بعض أبناء هذه المدرسة يمارسون هذا الدور لأنهم شركاء فى الفساد وفى رحلة الصعود من الحضيض إلى الملايين والمليارات.. بعد ثورة ٣٠ يونيو بدا تباين الطرق بعد أن أوقفت الدولة شلالات التمويل وأدرك صانع القرار الثمن الذى دفعه المجتمع لهذا الفساد.. بدأت مرحلة اصطناع تاريخ شخصى جديد ورسم صورة ذهنية مختلقة من الألف إلى الياء.. وكانت ملايين التمويل المختزنة خير معين على هذه المرحلة الجديدة.. ما دمت تدفع فستجد إعلاميًا يستضيفك ويلمعك ويرقص لك عجين الفلاحة.. سيجعلك مناضلًا وصاحب رأى ومفكرًا ومفتيًا وفق قاعدة «كله بثمنه».. لو أن هذه مجرد قصص صعود ملوثة بالانتهازية لاكتفيت بأن أكتبها فى روايات أدبية مثلما كان إحسان عبدالقدوس يفعل.. لكن المأساة أن هذه النخبة الفاسدة جعلتنا جميعًا ندفع الثمن.. تخلوا عن تنوير المجتمع وتعليمه وانخرطوا فى جمع الثروة.. كان بعضهم فاسدًا لدرجة أنه يأتى بنساء من ممثلات «الكومبارس» يؤدين دور حاضرات فى دورة تدريبية ويصورهن على شريط فيديو كدليل حى للجهة صاحبة التمويل على وجود نشاط تم إنفاق التمويل عليه.. كان بعضهم يزوّر فواتير الفنادق وأجور العاملين وكل شىء يمكن تزويره ويرسله للممولين كى يثبت كيف أنفق التمويل.. كانوا «حرامية غسيل» فى شكل مناضلين ومناضلات، وكانت العلاقات بالغرب تحميهم من أى حساب، انفصلوا عن الواقع الذى يدّعون أنهم يريدون تغييره ونسوا المواطن البسيط الذى هو فى حاجة لمن يوعيه ويعلمه ويمحو أميته.. الفلاحات اللاتى يستيقظن من الفجر ليسعين على رزقهن فى أسواق القاهرة لا يحتجن لهذه التفاهات عن الجباية بين الأزواج.. هم فى حاجة للمساعدة والتدريب على مواجهة أعباء الحياة.. ليس لدىّ شىء أطالب به ولا دافع للكتابة سوى إعلان احتقارى لهذه العصابات المرتزقة التى سطت على وجه الحياة الإعلامية والسياسية فى مصر لعقود وأغرقتها فى كل ما هو فاسد ورخيص وانتهازى.. «غوروا» من وجوهنا من فضلكم.