«البهيجى».. رواية ترصد الصراع النفسى داخل بانى مصر الحديثة
عوامل عدة دفعتنى للتوقف أمام رواية «البهيجى» للكاتب مصطفى البلكى والصادرة مؤخرًا عن دار نشر سما، لعل أبرزها أسلوب الحكى الدئرى المميز.
الكثير من الإبداع اللغوى وخطوط رسم للأحداث ليست متداخلة على قدر ما هى متضافرة. هذا الأسلوب قد لا يناسب مبتدئى القراءة، ولكنه قادر على الدعوة للتفكير المستمر لربط الأحداث.
من عوامل الإعجاب أيضًا، غزارة المعلومات التاريخية التى غزت سطور الرواية لتنسج أحداثًا دقيقة ومقبولة تاريخيًا، وذلك أدى إلى جعل الرواية واقعية إلى حد بعيد بكل ما تحمله من مشاهد وأحداث.
رواية «البهيجى» هى رواية تاريخية فلسفية، تدور أحداثها فى حقبة حكم محمد على باشا. فيما بعد مذبحة المماليك وسيطرة محمد على البلاد.
وعلى عكس الروايات التاريخية السائدة التى تهتم بالحكم، ومؤامرات قصور الحكم، ودسائس السياسة، فالرواية تكشف لنا عن شئون البشر، بعيدًا عن الحاكم والمحكوم.
يغوص الكاتب بداخل النفس البشرية، ويضع الكل أمام كشاف يسلط الضوء على النوازع النفسية، فالكاتب رسم جميع شخصياته مقسومة، نصفها جانى ونصفها مجنى عليه. كل منها داخله الشيطان والملاك، كل منهما داخله مبررات لشره، وإذا اتبعت الشر داخله وجدت أحدهما له اليد الطولى فى بعث ذلك الشر. فلكل منهما ثأر، أو بمعنى أدق كل منهما هو الشرير فى حكاية الآخر.
فالأم المغلوبة على أمرها الضعيفة المنكسرة من الفقر وطغيان الحاكم والمقهورة من جور وفجور رجال «الكتخدا»، هى نفسها الشريرة فى رواية ابنها فرح، حيث أتعسته وقهرته. هناك أيضًا «شهرة» الغانية صاحبة أكبر ماخور للغوانى، وفى الحقيقة هى من أكبر البصاصين، ومصدر معلومات للاظوغلى باشا رجل الأمن القوى. فهى فى الأصل ضحية الفقر وظلم المجتمع.
وهناك أيضًا «واد خيبة»، الشاب الريفى البسيط ابن السقا، الذى قاده رجال «الكتخدا» مع من قبض عليهم كالخراف من قلب أرضهم وطينهم، لتقديمهم للتجنيد الإجبارى القسرى. فتحول تحت غسل الأدمغة بشعارات كاذبة لآلة بلا مشاعر أو عقل، لدرجة أنه قتل أباه لمجرد أن الأخير عارض مولانا ولى النعم.
وهناك أيضًا ولى النعم نفسه محمد على باشا، التاجر من قَولّة، العاشق لزوجته أمينة هانم ولأبنائه إبراهيم وطوسون وإسماعيل الذى يتخلى عن كل ذلك ليحقق حلمه بأن يكون الباشا ولى النعم فيسير على جثث ودماء من عارضوه ليصل، فيكتشف فى النهاية أنه داس على قلبه ودمر قلب حبيبته وخسرها للأبد، وسار على جثث أبنائه أيضًا.
وفى الآخر هناك محمد البهيجى القارئ المتعلم مكتسب اللغات صاحب الألسن، من الذين خالفهم الحظ وقبض عليه رجال «الكتخدا» فى إحدى غزواتهم لقرى الغلابة ليقتادوا الرجال كالنعاج للخدمة العسكرية.
وكان علمه هو شفيعه ليقتصر علمه على أن يصبح ترجمانًا للجيش الوليد ولسانًا لأوامر ولى النعم فقط، ولكن نفس العلم كان نقمة على حماه «العرضحالجى» الذى بتروا له أصابع يديه حتى لا يكتب ما يخالف أوامر ولى النعم. فيدور «البهيجى» فى دوامة رغبته فى الثأر، وكلما وضع هدفًا لثأره يكتشف أن هناك من هو الأولى لثأره، حتى يضيع الثأر فى رحابة الظلم. رواية «البهيجى» تجعلك تشعر وتشاهد وتسمع الأحداث والحوار بعينيك وأذنيك وقلبك وعقلك.. أتمنى أشاهدها كعمل درامى قريبًا.