ذكرى أمير الرواية العربية.. محمد المخزنجى يتحدث عن نجيب محفوظ: أديب نوبل حكيم عظيم مثل بوذا ومانديلا وغاندى
اعتبر الأديب الكبير محمد المخزنجى، نجيب محفوظ أحد حكماء البشرية العظام الكبار، الذى يمكن أن نضعه مع بوذا ومانديلا وتولستوى وغاندى، وغيره من النماذج البشرية ذات الحكمة العالية التى تتمتع بنظرة صوفية صافية ودنيوية ثاقبة الرؤية.
وكشف «المخزنجى»، خلال حواره مع «الدستور»، عن كواليس جلسة جمعته بنجيب محفوظ امتدت ساعتين فى مكتبه بالأهرام، مشيرًا إلى أن «أديب نوبل» أبدى إعجابه بما يكتبه وسأله عن تفاصيل فى حياته، وتحدث معه بصفاء ومودّة عن الكتابة والأدب.
وأشار إلى أنه كان فى الاتحاد السوفيتى، آنذاك، حينما فاز محفوظ بـ«نوبل»، وتلقى حينها تهنئة من زملاء من جنسيات مختلفة، انبهارًا واحتفاء بالأديب الذى جاء من العالم الثالث ليفوز بهذه الجائزة العالمية. إلى نص الحوار.
■ بداية.. كيف بدأت علاقتك بـ«أديب نوبل»؟
- نجيب محفوظ كان من أول الناس الذين احتفوا بقدومى إلى ساحة الأدب، دون أن أكون من حوارييه أو القريبين منه، ودون حتى أن أهديه كتابى الأول حين صدر، فحين صدر كتابى القصصى «الآتى» فوجئت بنجيب محفوظ يتحدث فى حوار صحفى عن قصصى، قائلًا: «إنها قصص قصيرة جدًا ولكنها ممتازة؛ بحيث أنها تُكتب فى أضيق حيز، ولكن كل قصة لها معنى واسع، وهى تدل على مقدرة فنية فذة فى عالم القصة القصيرة».
فاجأنى ما قاله نجيب محفوظ وأذهلنى تمامًا، كنت حينها مقيمًا فى المنصورة، وليس لى وجود فى الوسط الأدبى إلا نادرًا، ولم أكن نشرت الكثير، بالطبع سعدت جدًا بشهادة من أحد كبراء الأدب العربى الحديث وآبائه المجددين، فقررت الذهاب إليه لأشكره.
■ أين ذهبت إليه؟
- كنت أعلم أنه يذهب لمكتبه فى جريدة الأهرام فى تلك الفترة، المهم أننى وضعت فى حسبانى أننى سأجلس معه لمدة ٥ دقائق أعبّر له فيها عن امتنانى العميق وأنصرف احترامًا لوقته ومقامه.
وكان من المفترض أنه يجلس فى مكتب واحد مع الأستاذ توفيق الحكيم، لكننى وجدته وحده فى صباح مبكر، أذكر أن اللقاء كان فى التاسعة أو العاشرة صباحًا، وامتدت الخمس دقائق التى قدّرتها إلى ساعتين بسطهما ما بيننا بترحيب أبوى بديع منه، وخلقت الساعتان علاقة مودة أعتقد أنها ظلت فى ذاكرته لسنين كما ظلت فى ذاكرتى بالطبع.
■ كيف دار الحديث بينكما؟
- فى البدء وحين جلست إليه شكرته، فقال كلامًا طيبًا فيما أكتب، ثم رفع رأسه ملاحظًا: «أنت صغير»، كنت حينها فى الثامنة والعشرين من عمرى ولكننى كنت أبدو كما لو أننى أصغر بعشر سنوات كاملة، فقلت له «عندى ٢٨ سنة»، وراح يتحدث معى وسألنى ضمن الدردشة: «ماذا عن الجمع بين الطب والأدب؟»، لأن هناك الكثيرين لم يستطيعوا ذلك الجمع إلا القليل، ومنهم الجراح العظيم صاحب رواية «قرية ظالمة» الدكتور محمد كامل حسين، والشاعر أحمد زكى أبوشادى وهو أحد أعمدة جماعة «أبولو» ومؤسسها، ومعظم الأطباء الذين اتجهوا للأدب لم يستطعيوا الجمع بين الأدب والطب، منهم من اتجه للطب كليةً وترك الأدب، ومنهم من ترك الطب واتجه للأدب.
قلت له ضاحكًا: «إننى مثل المتزوج من اثنتين، أذهب للأولى فتغضب الثانية، وأذهب للثانية فتغضب الأولى»، فدوَّت ضحكته المجلجلة التى لا تزال أصداؤها تتردد فى سمعى.
ثم سألنى: «هل أنت من أسرة ثرية؟»، فقلت له: «إننى من أسرة بسيطة لم أرث عن أبى سوى سيرته الطيبة»، وهنا أوضح لى نجيب محفوظ صعوبة الطريق بشكل غير مباشر، فقال: «أنا حرصت على أن أظل موظفًا حتى الإحالة للمعاش لأن الأدب ما بيأكلش عيش».
وأضاف أن بعض الوفرة كانت تأتى من كتابة السيناريو، لكنه لم يكن يكتب السيناريو إلا عندما لا يكون لديه عمل أدبى يشغله. وحين يكتب الأدب لا يكتب السيناريو، أى أن الأولوية عنده كانت للأدب.
أعتقد الآن أن ذلك كان أهم ما فى حياته، وقوله إن الأدب «ما بيأكلش عيش» نبوءة صحيحة باستثناءات، لأن الأدب الجاد جمهوره محدود، ونجيب محفوظ لم يزد حجم توزيع أعماله بشكل واسع إلا بعد «نوبل»، أى بعد أن أصبح أيقونة تستثير الفضول للاقتراب منها بالقراءة، وبعد القراءة يكون الاكتشاف، ومن ثم الارتباط بالكاتب، ويكون مجرد وجود اسمه على غلاف كتاب له كفيلًا بالترحيب.
■ حدثنا عن رؤيتك لـ«صاحب الحرافيش»؟
- أعتقد أن نجيب محفوظ أديب عظيم لكن الأكثر بالنسبة لى أنه أحد حكماء البشرية العظام الكبار، تستطيع أن تضعه مع بوذا ومانديلا وتولستوى وغاندى وغيرهم من النماذج البشرية ذات الحكمة العالية، التى تكاد تكون صوفية صافية ودنيوية ثاقبة الرؤية.
■ كنتَ فى الاتحاد السوفيتى وقت فوزه بـ«نوبل».. كيف كان رد فعلك على هذا الحدث؟
- حينها كنا سبعة من المصريين أصدقاء فى كييف، وكان هناك آخرون، لكن اقتصر جمعنا الاحتفالى بفوز محفوظ على مجموعتنا المقربة. اجتمعنا فى غرفتى بالمسكن الجامعى وكان هناك الشاى والحلوى، ورحنا نستقبل من المقيمين فى البناية الكبيرة المكونة من عشرة طوابق الأصدقاء من الطلبة العرب وبعض الجيران الروس والأوكران والجنسيات الأخرى من العالم.
كانوا يهنئوننا كأننا نحن من حصل على الجائزة، وأتذكر أنهم كانوا مبهورين بما كتبته الصحافة العالمية عن «الرجل الساعة» الذى فاز بنوبل من مصر، مواعيده الدقيقة، متى يدخن السيجارة، متى يذهب للمقهى، متى يخرج من بيته، وهكذا.
■ بمناسبة الاتحاد السوفيتى.. ماذا عن مسار ترجمات أعماله هناك قبل وبعد الجائزة؟
- بالطبع كانت هناك ترجمات لمحفوظ ودراسات عنه قبل فوزه بـ«نوبل»، وإنما لم تكن بالغزارة والوفرة التى أصبح عليها بعد فوزه بالجائزة، ولك أن تعلم أن يوسف إدريس كان أكثر منه ترجمة فى الأدب الروسى، وربما يرجع ذلك لأن «محفوظ» لم يكن له موقف سياسى واضح للقارئ غير العربى والمصرى، بينما الحقيقة أن مواقفه السياسية كانت مكونًا أساسيًا فى نسيج أدبه. لا أعرف كيف حسبها السوفيت، ولكن أذكر أن هناك عددًا من الأبحاث والرسائل الجامعية أجريت عن أدبه هناك. بعد «نوبل» الدنيا كلها استدارت إليه، وراحت تنظر إلى هذا الكاتب الأعجوبة القادم من «العالم الثالث».
■ هل انعكست حركة الترجمة على بقية الكُتّاب العرب؟
- لا أعتقد أن ذلك حدث، فالعالم العربى لم يكن فى حسبان الغرب، وربما لا يزال، إنهم لم يحسنوا النظر إلى أعماقنا وفضائلنا، نحن شعوب قديمة نظل منطوين على أعماق وفضائل ومواهب استثنائية، الغرب لم يسر فى هذا الجانب، وجائزة «نوبل» قبل نجيب محفوظ تؤكد ذلك، فلم تحصل عليها معجزة إنسانية وثقافية مصرية عربية عالمية كطه حسين، ثم توفيق الحكيم المسرحى العالمى والمثقف الإنسانى سابق عصره، جحدته هذه الجائزة، وقس على ذلك الكثير.
ويُحمَد لنجيب محفوظ تصريحه فور إعلان فوزه بنوبل بأن توفيق الحكيم كان أولى منه بها، وهو تواضع جميل ورُقى إنسانى صادق، وأتذكر مقولة للدكتور لويس عوض فى ندوة بجامعة المنصورة هوجم فيها وهوجم محفوظ من قبل بعض حناجر التعصب وضيق الأفق، وقال حينها إن نجيب محفوظ إن لم يكن أرقى المصريين فهو من أرقاهم.
■ حدث ما يشبه الفتنة بين يوسف إدريس ونجيب بعد فوز الأخير بـ«نوبل».. كنت شاهدًا على ذلك؟
- كنت فى الاتحاد السوفيتى عندما أشعل البعض هذه الفتنة، وعدت بعد شهور من حدوثها، وفى اليوم الثانى من وصولى، بعد أن ألقيت حمولى فى المنصورة ورأيت أهلى وبعض أصحابى المقربين، حادثت يوسف إدريس فقال: «تعال فورًا»، وذهبت إليه فى بيته العزيز ١٠٠ شارع النيل عمارة الهلالية، وسمعت منه، وكنت قد سمعت من عديدين عن بعض ما حدث وبدا كأنه معركة بين نجيب محفوظ ويوسف إدريس، والآن أقرر من خلاصة ما جمعته أن يوسف إدريس لم يشعل هذه المعركة كما لم يؤججها نجيب محفوظ.
افتعلها «كدابو كل زفة»، فثمة من اختطف تعليقًا ليوسف إدريس عن أن الجائزة مسيّسة، وطار بهذا يشعل حريقًا بأن يوسف إدريس قال إن الجائزة ذهبت إلى نجيب محفوظ لموقفه السياسى الممالئ لإسرائيل.
يوسف إدريس لم يقل هذا أبدًا، بل قال إن الجائزة مسيّسة، ولا أحد فى العالم ينكر أن هذه الجائزة وغيرها لا تخلو من التسييس. ثم إن يوسف إدريس أُوقع فى فخ اقترابه من نوبل، وأنا قرأت فى «النيوزويك» قبل ظهور نتيجة الجائزة توقعات أو تسريبات بقائمة صغيرة تضم أربعة أسماء مرجحة لنيلها، كان يوسف إدريس أحدهم.
يوسف إدريس كان نوعًا نادرًا من المبدعين العالميين بتفجر موهبته الفطرية وبراءة نفسه الجامحة كأى فنان كبير، لم يستطع أن يخفى انتظاره جائزة كان يستحقها بكل تأكيد ولأسباب بسيطة وإنسانية للغاية.
كان يتمنى الجائزة نعم، لكنه لم ينكرها على نجيب محفوظ، فقد كان يقدّر عظمته، وبعد أن قرأ «الحرافيش» سمعته يكرر فى أكثر من مناسبة وعلى أسماع كثيرين، بإعجاب شديد وإكبار، بأن نجيب محفوظ «عملها» أى أتى بما لم يأتِ به أحد.
كل ما كتبه «محفوظ» يحظى بقيمة عالية.. لكن ما الذى تفضله من أعماله؟
- بالطبع قرأت بتقدير كل ما كتبه تقريبًا، لكن بمقياس الحب، أى أن يكون الكتاب قابلًا لإعادة قراءته مرات ومرات. أحب «الحرافيش» بالطبع، وأحب الكتابات الموجزة بشكل خاص مثل «حكايات حارتنا»، و«أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة».