النخبة والناس
بينما كنت أكتب مقالى عن ضرورة «القوافل الثقافية» كان صديقان عزيزان ينفذان ما أطالب به فى صمت، وبمبادرة شخصية منهما كان «إبراهيم داود» و«نبيل عبدالفتاح» فى طريقهما للأقصر للقاء ثقافى فى بيت الشعر هناك.. المبادرة كانت من الأقصر.. لكنّ هذين المثقفين الحقيقيين لبيا الدعوة فورًا رغم أن شهر أغسطس ليس هو الموعد الأمثل لزيارة مدينة رائعة مثل الأقصر.. فى الصباح وجدت أستاذ الإعلام المعروف د. محمد شومان يوجه لهما الدعوة ويقارن بينهما وبين «مصر التى فى الساحل»!.. وجدت أن التحية مكانها هنا لأن زيارتهما هى التى حفزتنى لمعاودة الدعوة للقوافل الثقافية، ولأن كليهما صديق عزيز ومن كتّاب «الدستور» الذين نعتز بهم جدًا.. أنا أختلف مع د. شومان فى أن مصر التى فى الساحل ليست شيئًا واحدًا.. هناك من ذهب إلى هناك بكده وعرقه وعن استحقاق، وهناك من ليس كذلك.. ومن أجل هذا يتم الإصلاح.. أما نزول «النخبة» للناس فهو ما أتفق عليه معه وأطالب به قبله، وأرى أنه فرض عين على كل فرد من النخبة المصرية سواء كان مثقفًا أو اقتصاديًا أو مهنيًا، وإلا فإن الخسارة ستكون فادحة.. فى سياق آخر قال الأبنودى «لو موش نازلين للناس فبلاش» كان يتحدث وقتها عن المثقفين وضرورة نزولهم للناس لـ«تثويرهم» أو «تحريكهم» لكن هذا الشاعر العظيم نفسه أدرك مع الوقت والتجارب أن على المثقفين أن ينزلوا للناس لـ«تنويرهم» و«تعليمهم».. هذا هو ما نطالب به.. لقد كان أحد أوجه مأساة مصر فى الأربعين عامًا الأخيرة هو زيادة الفوارق بين المصريين وبعضهم البعض، حتى أصبحت النخبة بمعناها الاقتصادى والثقافى تعيش خلف أسوار منعزلة هى أسوار «الكومباوند» وهو الاسم الإنجليزى للمجمعات السكنية المغلقة على أصحابها.. تحول «الكومباوند» إلى طريقة حياة.. فى كل المجالات.. ففى الصحافة والثقافة هناك «شلة» تحل محل «المجمع السكنى» بنفس مواصفاته.. مجموعات مغلقة.. لا تنفتح سوى على بعضها.. ولا تفتح الباب للمواهب الجديدة إلا عبر اشتراطات معينة، ولا يعلم الكبير فيها الصغير إلا فى حالات نادرة وربما وفق تنازلات معينة.. غابت قيم الانفتاح على الآخرين، والعطاء، والبذل، وزكاة العلم أو زكاة الفرصة، وهما تعبيران من ابتكارى الشخصى، كنت أشجع بهما الزملاء على إتاحة الفرصة للآخرين كنوع من التزكية عن ما وهبهم الله إياه من فرصة أو نجاح.. أصبحنا نسمع ونقرأ عن استعباد بعض أساتذة الجامعات المعيدين نظير إشرافهم على رسائلهم العلمية.. رغم أن وظيفة الأستاذ هى تعليم الآخرين وصون كرامتهم، وإلا لما استحق لقب أستاذ.. أصبحنا نرى حالات لحقد البعض على الأجيال الأصغر والتفنن فى إبعادهم والكيد لهم واغتيالهم معنويًا.. ولم يسأل أحد نفسه وماذا عن المستقبل؟ من سيحمل أمانة هذا البلد؟ وأى مواصفات سيكون عليها ما دام لم يجد الفرصة ليتعلم؟ كان هذا هو المتاح المناسب قبل يناير ٢٠١١ لتعلو صيحات هدم المجتمع وإعادة بنائه من جديد.. وكانت المأساة أنه لا توجد كفاءات لبناء أى شىء، لأن «الآباء الفاسدين» كانوا آخر الأجيال التى أتيحت لها الفرصة للتعلم.. مر المجتمع بعامين ونصف العام من التخطيط والفشل حتى قامت ثورة ٣٠ يونيو لتعبر عن صوت إصلاحى من داخل الدولة المصرية يدرك ضرورة الإصلاح الفورى والجذرى.. تمت إجراءات عاجلة لتمكين الشباب وإزاحة طبقات فاسدة وتمكين نخب جديدة تتنفس هواءً أكثر نقاءً.. لكن الماضى لا يمكن إزالته بجرة قلم.. تحورت بعض الأشكال القديمة وغيرت جلدها وتظاهرت بأنها من علامات المستقبل رغم أنها من مخلفات الماضى ولا تستطيع أن تخدع أحدًا.. الأمل الوحيد هو فى رؤية الرئيس السيسى ووعيه بتفاصيل الواقع المصرى بأكثر مما يتصور أحد.. دعوة الرئيس للحوار الوطنى هى أحد أشكال إزالة الحواجز بين المصريين وبعضهم البعض، وأحد أشكال تغيير الميراث القديم وتقريب الجزر المنعزلة.. الحوار يجب أن يتحول لحالة عامة وأحد الأشكال هو حوار النخبة مع أهل الأقاليم وزياراتهم لهم.. إذا عدنا للمبادرة التى وجهنا لها التحية فى بداية المقال سنجد أنها استجابة فردية لدعوة من بيت الشعر فى الأقصر، ونحن نريد لهذه الزيارات أن تكون بشكل منظم من خلال وزارة الثقافة ومبادرة حياة كريمة مثلاً.. إذا اعتبرنا دعوة الرئيس للاصطفاف بمثابة بناء جدار صلب.. فإن الحوار والنزول للناس هو «الأسمنت» الذى يمسك أحجار هذا البناء ببعضها البعض.. ويسد الفراغات بينها وبين بعضها ويجعل شكلها منطقيًا ومستويًا.. لو موش نازلين للناس.. فبلاش.. تسمعوا وصية الأبنودى وترحموا عليه.. فلن يجود زماننا علينا بمثله للأسف الشديد.