مصر فى ظل مجاعات إفريقيا وحرائق أوروبا
عاش سُكان القرن الإفريقى فى الفترة بين يوليو ٢٠١١ وأغسطس ٢٠١٢، واحدة من أسوأ موجات الجفاف التى ضربت المنطقة مُنذ ٨٠ عامًا، حيث انخفض مُعدل سقوط الأمطار بأكثر من ٣٠٪ فى عامى ٢٠١٠ و٢٠١١، عن متوسط السنوات الخمس عشرة السابقة عليهما، ليؤثر بشكل عميق على المحاصيل التى تعتمد على الأمطار بشكل أساسى، ما ولد موجات جوع للبشر وخسارة فادحة للحيوانات وإنتاجها من اللحوم والألبان، كانت محصلة الكارثة حينئذ تعريض نحو ٩٫٥ مليون نسمة من سُكان الصومال، كينيا، إثيوبيا، وجيبوتى للجوع وسوء التغذية الشديد، ما أسفر عن وفاة ما يُقدر بنحو ٢٦٠ ألف من بينهم.
تتعرض ذات المنطقة لذات الخطر لكن مع عواقب أكبر هذه المرة خلال الشهر الجارى، حيث يصل التأثير لنحو ٨٠ مليون نسمة من سُكان ذات الدول، بالإضافة لبعض دول جنوب القارة مثل أنجولا، زيمبابوى وموزمبيق، ومع ارتفاع العدد الخاضع للكارثة، سيرتفع حتمًا عدد الوفيات إذا لم يحدث تدخل عاجل، وهو أمر غير مُتوقع فى ظل ما يشهده العالم من توترات جيوسياسية تُشعل مُعدلات التضخم، وتُفقر مواطنى القوى الكُبرى، التى يُفترض بها أن تهُب أساسًا لتقديم الدعم اللوجستى والمادى لانتشال الملايين المُعرضة للخطر، وهو ما قد تصل تكلفته لنحو ١٠ مليارات دولار، فى ضوء وصول تكلفة إنقاذ الملايين التسعة فى عام ٢٠١٢ لنحو ١٫٣ مليار دولار، عندما كانت المواد الغذائية عند رُبع ثمنها فى العام الجارى.
ما يُفاقم الوضع فى شرق إفريقيا، هو ما تشهده القارة الأوروبية من ارتفاعات غير مسبوقة فى درجات الحرارة، وصلت لأن جعلت الحرائق تشتعل فى الغابات بطول القارة، بل رفعت درجات بخر مياه أنهارها مما قلل مناسيب المياه فيها بشدة، جعلت الاعتماد عليها فى منظومة النقل صعبًا للغاية، فى حين أن دور الأنهار فى هذه المنظومة شديد المحورية، حيث بُنيت على ضفافها محطات توليد الكهرباء من المصادر الأحفورية، لانخفاض تكلفة نقل هذه المواد عبر نظام النقل النهرى، ومع انخفاض المناسيب بات نقل مواد الطاقة- النادرة أساسًا- عملية فى غاية التعقيد، مما قلل الكهرباء المولدة من المحطات الحرارية.
لم تسلم المحطات النووية الأوروبية كذلك من ارتفاع درجات الحرارة، حيث إن مُعظم المُفاعلات النووية فى الداخل الأوروبى تستخدم الأنهار للتبريد، ومع انخفاض منسوب المياه فيها، اضطرت لخفض قدرات التوليد لتُناسب كميات المياه المُتاحة، وقد أدى انخفاض الطاقة الكهربية المُولدة فى ظل ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعى لرفع أسعار الكهرباء فى مُعظم دول القارة، حتى بلغ سعر الميجاوات ساعة فى ألمانيا لنحو ٣١٤ يورو خلال يوليو، فيما كان السعر قد سجل العام الماضى خلال نفس الشهر مُستويات ٨١ يورو، ويتوقع أن يصل سعر الميجاوات إلى ٥١٦ يورو فى ديسمبر العام الجارى.
الجهود البشرية على مدار السنوات السبعين الأخيرة قللت من انكشاف مصر على الأزمتين اللتين تضربان جنوبها وشمالها، فوجود السد العالى عزز موقف مصر وحماها من تقلبات مياه الأمطار، وحفظ لها كميات وفيرة من المياه تستخدمها فى مواسم الجفاف ووقاها مياه الفيضانات، كما أن حقول غاز المتوسط- وخصوصًا ظهر- كفلت وجود مصادر الطاقة التى تحتاجها محطاتها لتوليد الكهرباء، ورغم ذلك فإن مصر ما زالت معنية بالأزمة وبشدة، فى المديين القصير والطويل.
فعلى المدى القصير ستكون مصر مُطالبة بحشد إمكاناتها لتقديم الدعم والإغاثة للأشقاء فى إفريقيا، على عكس ما حدث فى عام ٢٠١١، عندما غابت الدولة المصرية بفعل أحداث يناير، أما اليوم فمصر موجودة وبكامل قدراتها، وتعول عليها القارة كفاعل قادر على التدخل لتقديم الدعم والمُساندة لحل مُشكلاتها العُضال، فيما تتوجه القارة الأوروبية لمصر لحشد قُدراتها على تصدير فوائضها من الغاز الطبيعى، ونقل فوائض دول حوض شرق المتوسط، حتى تُسهم جُزئيًا فى خفض أسعار الطاقة التى باتت تُهدد الاستقرار الاجتماعى فى مُعظم دولها.
أما على المدى الطويل فإن مصر مُطالبة بلعب دور المُنسق والمُيسر لجهود العالم فيما يخص تقليل الانبعاثات الحرارية، لوقف تدهور الأوضاع المُناخية، وذلك أثناء استضافتها قمة المُناخ فى نوفمبر من العام الجارى، التى يضع عليها العالم آمالًا عريضة فى تقليل الأضرار البيئية الناتجة عن التغيرات المُناخية، ومن المُتوقع أن تتلقى هذه الجهود دفعة كبيرة فى ضوء الأزمات المُناخية التى يشهدها العالم، سواء فى إفريقيا أو أوروبا، أو الأعاصير والفيضانات التى تضرب آسيا وأمريكا الشمالية، لكن هذه الجهود ستواجه على الطرف الآخر بعوائق عديدة فى ظل الانقسام الحاد بين الشرق والغرب، تحت تأثير النزاع الروسى الأوكرانى والتوترات السياسية فى مضيق تايوان.
تختبر الأزمات الحادثة فى العالم إذن الدولة المصرية وقدراتها الشاملة وجمهوريتها الجديدة، وفى ذات الوقت تقدم لها فرصة نادرة لتغيير وقائع الماضى الذى انعزلت فيه عن أشقائها الأفارقة، وابتعدت فيه عن لعب دور مؤثر على الساحة العالمية، مُكتفية بدور تابع فى الإقليم لا ينشغل سوى بالقضية الفلسطينية دون سواها ما كاد يحولها فى النهاية لطبيب مُفلس ذى مريض واحد!