خُفى حُنين... وتمرة
حفزت زيارة الرئيس الأمريكى جو بايدن للمملكة العربية السعودية تدفق عدد لا نهائى من التحليلات، انصب مُعظمها على كونها زيارة مفصلية تُعيد ترتيب المشهدين السياسى والاقتصادى فى المنطقة، خاصة فى ظل تزامنها مع أحداث جسام تضرب العالم، ليس أقلها الصراع الصينى الأمريكى المُتصاعد، والحرب الروسية الأوكرانية، وما تجلبه معها من ارتفاعات على أسعار السلع الأساسية من غذاء ومعادن وطاقة، تُسبب قفزات فى معدلات التضخم، التى وصلت فى الولايات المتحدة وبريطانيا لسقف مستوياتها فى أكثر من أربعين عامًا كاملة.
الزيارة كان لها هدفان جوهران: أولهما إصلاح العلاقات مع دول الخليج الست وخصوصًا المملكة العربية السعودية والإمارات، اللتين توترت علاقات الولايات المُتحدة معهما فى ظل الإدارة الديمقراطية، التى ما إن دلفت للبيت الأبيض حتى وجهت بُصلتها فى اتجاه إيران، لتحاول جاهدة توقيع اتفاق نووى معها، تأبى إيران إلا أن تفرض شروطها كاملة عليه، بما لا يُراعى مصالح المجموعة الخليجية.
أما السبب الثانى فهو الدافع للسبب الأول، والذى يتلخص فى إقناع الدول الست ومن خلفها مجموعة أوبك لرفع إنتاجها من النفط الخام، ليُعادل الطلب العالمى المُتسارع، ويعوض انخفاض النفط الروسى فى الأسواق، بسبب العقوبات المُنتظرة بنهاية العام الجارى، أو فى حالة التوفيق الزائد الحصول على تعهدات- كانت سهلة فى الماضى- بتعويض الفاقد من الإنتاج الروسى بعد تطبيق العقوبات، بما يسمح للدول الأوروبية بالإمعان فى معاقبة روسيا، ومنع تدفق إيرادات النفط، التى تقوى الاقتصاد الروسى، وتشكل شبكة أمان لحماية القوات الروسية، وبالتالى تسمح لها بمواصلة الحرب بمنأى عن تأثيراتها.
أتت الزيارة بعد تواتر الإعلانات فى يونيو عن توقعات منظمات سوق الطاقة، بسيادة اتجاه مستمر لارتفاع الطلب العالمى على النفط من العام الحالى للقادم، حيث توقعت أوبك وصول إجمالى المطلوب عالميًا لأعلى من ١٠٠ مليون برميل يوميًا، فيما أعلنت منظمة الطاقة الدولية- المنظمة المسئولة عن ترتيب أوضاع المُستهلكين- عن أن ذات الرقم أقل بكسور عشرية عن ١٠٠ مليون برميل، وقد ارتفعت هذه الأرقام فى يوليو لتتجاوز جميع التوقعات الـ١٠٠ مليون برميل يوميًا.
هذه الزيادات المتوقعة فى الطلب واجهتها الولايات المتحدة بالسبل المتاحة لديها خارج نطاق أوبك قبل الزيارة، فبدأت أولًا بعرض مخزونها من النفط الاستراتيجى فى السوق، وهو إجراء استثنائى، لا تلجأ إليه الإدارات الأمريكية إلا فى أضيق نطاق، وكان أقصى استخدام تاريخى له على يد الرئيس أوباما، الذى أطلق نحو ٣٠٫٦ مليون برميل ابتدأ من يونيو ٢٠١١، لمواجهة آثار تعطل النفط الليبى إثر الهجوم على نظام القذافى.
إلا أن الرئيس بايدن أعلن فى مارس ٢٠٢٢ عن خطط لعرض مليون برميل يوميًا، لمُدة ٦ أشهر كاملة، بما يُعادل ١٨٠ مليون برميل، وبالفعل بدأ التنفيذ فى مايو بمعدلات تصل إلى ٨٨٠ ألف برميل يوميًا، لتنخفض هذه الاحتياطيات إلى مستوى ٤٦٩٫٩ مليون برميل بنهاية يوليو، وهو أدنى مستوى منذ مايو ١٩٨٥، وذلك مقارنة بـ٦٣٥ مليونًا فى أبريل ٢٠٢٠، وذلك فى محاولة للسيطرة على السوق وخفض الطلب.
لم تكتف الولايات المتحدة بذلك، بل أخلف الرئيس بايدن وعوده الانتخابية، ليمنح مزيدًا من تراخيص التنقيب عن النفط، التى كان قد عزم على عدم منح أى منها فى فترة حكمه، حيث بدأت إدارته فى الوقت الحالى بدراسة منح ١١ امتيازًا جديدًا للتنقيب فى خليج المكسيك، ليبعث برسالة طمأنة أخرى بزيادة الإنتاج فى المُستقبل.
لم تفلح هذه الجهود فى خفض شهية المستثمرين حتى مع الإعلانات المُتوالية عن احتمال دخول الاقتصاد العالمى للركود، وتزامن ظاهرتى الركود والتضخم عليه، بما يقضى تمامًا على الطلب، بل وتحقق هذه التوقعات فعليًا بعد الزيارة، مع الإعلان عن انكماش الاقتصاد الأمريكى للربع الثانى على التوالى بمُعدل ٠٫٩٪ تقريبًا، ما كان يُفترض معه تخويف المستثمرين وخفض الطلب، لكن ذلك لم يحدث، واستمرت الأسعار عند مستويات أعلى من ٩٥ دولارًا للبرميل فى جميع الأحوال.
كان لا بد إذن من زيارة المنطقة العربية بعد فروغ الجعبة من الأسهم، وبعد تعدد زيارات المسئولين الأمريكيين ما دون المستوى الرئاسى للمنطقة، والتى لم يفلح معظمها فى دفع المجموعة الخليجية إلى رفع الإنتاج، الذى أُعلن عن أنه بالفعل عند أقصى مستوياته.
فى منتصف يوليو اضطر الرئيس بايدن لزيارة المنطقة بنفسه ليعقد مجموعة من اللقاءات مع زعمائها، باجتماعه بمجلس التعاون الخليجى بالإضافة إلى مصر والأردن والعراق، ليحاول الخروج باتفاق على زيادة إنتاج النفط فى مقابل إعادة العلاقات الثنائية الأمريكية الخليجية إلى مستوياتها الاستراتيجية التى حافظ عليها أسلافه، والتى يتبدى أهمها فى إعادة مبيعات السلاح التى عُلقت بمجرد وصوله للبيت الأبيض.
وقد كان، حيث أعلن ولى العهد فى أعقاب مُغادرة الرئيس بايدن أراضى المملكة عن اتجاه بلاده لرفع إنتاجها من النفط، وفى المقابل أعلنت الولايات المتحدة عن عودة مبيعات السلاح، وخصوصًا الدفاع الجوى منها إلى الإمارات والمملكة العربية السعودية، وفى اليوم التالى أعلن ولى العهد عن أن أى زيادة فى إنتاج النفط سيجرى تخطيطها داخل أوبك+، والتى تعتبر روسيا أحد أهم أعضائها.
وفى ٣ أغسطس اجتمعت أوبك+ لتُعلن فعليًا عن زيادة فى الإنتاج بمقدار ١٠٠ ألف برميل يوميًا، لكن هذه الزيادة هى الأقل خلال العام الجارى، حيث كانت أوبك+ قد داومت على زيادة إنتاجها خلال العام الجارى، بمستويات ٤٠٠ ألف برميل فى فبراير، ٤٣٢ ألفًا فى مايو، ٦٤٨ ألفًا فى يونيو، لتأتى زيادة أغسطس بما لا يتجاوز ٢٥٪ من أقل رفع خلال العام، لتجعل المنظمة الرئيس بايدن يبدو كمن زار المنطقة وعاد منها بخُفى حُنين... وتمرة!