خير سفير لمصر.. قواها الناعمة
مع كامل تقديرنا للجهد الكبير الذي تبذله الدبلوماسية المصرية في الخارج يظل للقوة الناعمة المصرية دور فاعل في تقريب المسافات وإذابة الخلافات وتقليل الفجوات بين الشعوب وخاصة مع الإخوة العرب وفي ذاكرتي عدد من المواقف التي عشتها بصورة شخصية والتي تؤكد أهمية ما أقول.
أذكر أنني كنت في زيارة إلى المملكة المغربية في بدايات عملي المهني وحينها كانت مصر والمغرب بين خمس دول تتنافس لنيل شرف تنظيم كأس العالم لكرة القدم والذي حظيت به - فيما بعد - جنوب إفريقيا.
وحينها ولأنني كنت في مهمة رسمية استقبلني المستشار الإعلامي المصري الراحل أحمد عبدالهادي، وحدثني عن طبيعة عمله والصعوبات التي يصادفها في أداء مهمته وللتدليل على ذلك ذكر لي كيف استنفد وقتًا وجهدًا كبيرين لتجاوز أزمة كاد يخلقها إعلامي - لاعب كرة سابقًا - حين تحدث عن الملف المغربي وألمح إلى من يساندونه في إشارة أغضبت الأشقاء في المغرب.
أدركت من حديث الرجل أنه أراد - حين أدرك حداثة سني وقلة خبرتي - أن يبلغني رسالة بما ينبغي أن يقال وما لا يقال، وبالفعل تمت دعوتي من قبل الإذاعة المغربية لأحل ضيفًا على فترة نقل مباريات كرة القدم على الهواء وقد جرت عادة الإخوة المغاربة أن يتلقى الاستوديو رسائل على الهواء من ملاعب المباريات بمختلف الجهات؛ تتخللها استضافة ضيف في الاستوديو بالرباط، وعلى مدار وقت المباريات يتنقل الميكروفون بين الملاعب المختلفة ليتلقى رسائل مراسلي الإذاعة ويقدموا ملخصًا بمجريات أحداثها وهي فترة تحظى بمتابعة كثيفة من جمهور المستمعين.
وحدث أن طرح عليّ المذيع المغربي الأشهر حينها محمد العزاوي وبذكاء سؤالًا عن موقف مصر إذا ما تم اختيار الملف المغربي لتنظيم المونديال؟.
فقلت له بصوت هادئ: لا تشك للحظة أن اختيار المغرب أو أي من الأقطار العربية المرشحة للاستضافة سيكون العوض لنا إن لم يتم اختيار الملف المصري ولا تظن أن تنظيم المغرب للمونديال لن ينال الدعم المصري على كافة المستويات بنفس القدر الذي نثق فيه من دعم المغرب لمصر لو اختيرت لتنظيم البطولة.
انتهت الفترة الرياضية واستقللت سيارة أجرة لأصل بها إلى الفندق الذي أنزل به وأدرك سائق التاكسي من لهجتي المصرية أنني أنا الضيف الذي تحدث قبل قليل مع عزاوي، وحين وصلت مقصدي رفض الرجل بكل الكرم العربي أن أدفع "سنتيما" واحدًا استحسانًا منه للطرح الذي طرحته عبر الراديو وفي المساء التقيت مجددًا بالمستشار الإعلامي في منزل السفير - حيث أكرمني بدعوة على العشاء - ذكر للسفير كيف كان ردي على عزاوي وسعادته بكلامي الذي تابعه عبر الراديو.
في مناسبة أخرى إبان ثورة 30 يونيو 2013 شاركت زميلين من الصحفيين تغطية مهرجان فني عربي لصالح وسائل إعلام مصرية نمثلها، وكان"الإسلاميون" قد شكلوا الحكومة في تلك الدولة الشقيقة وذات مساء كنا نتجول بالمدينة التي ينظم فيها الحدث الفني، رفقة شخصية أكاديمية نافذة في تلك الدولة وكان مسئولًا بالمهرجان.
فإذا بعدد من شباب تلك الدولة يلتقطون من لهجتنا أننا مصريون وأساء أحدهم لثورتنا الوليدة حينها، فانبرينا للدفاع عن ثورتنا وقرارنا الوطني ولم نأبه للمسئول الذي كان يرافقنا - خاصة أنه ابتعد عنا مسرعًا حفاظًا على حساسية موقفه - مدركين أنها مهمة وطنية، بعد تدخل العقلاء منهم هدأ الجميع وأوضحنا لهم طبيعة الموقف في مصر على حقيقته وبرؤيتنا الوطنية صححنا الصورة المضللة التي رسمها الإعلام المعادي حينها.
ومؤخرًا شاركت في مهرجان فني كبير بقطرعربي شقيق ضمن وفد إعلامي وفني متميز، وكان الفنان القدير طارق دسوقي أحد المشاركين والمكرمين في المهرجان، تابعت باهتمام فعاليات المهرجان غير أن الرجل لفت انتباهي بشدة، إذ لاحظت حرصه على الحضور الفعلي في كافة أنشطة المهرجان ومشاهدة عروض الأفلام والمشاركة الجدية في الندوات المقامة ضمن الفعاليات والحرص على متابعة الأنشطة الموازية التي نظمها الأشقاء احتفاءً بالمشاركين المصريين.
ووجدت فيه صوتًا مصريًا عروبيًا مثقفًا؛ مجيدًا لفن الخطابة وممتلكًا لأدوات الممثل القدير من إتقان اللغة العربية وقراءة واعية للوضع السياسي والأمني في الدولة المضيفة وتحركات محسوبة إدراكًا منه أنه لا يمثل نفسه وإنما هو أحد سفراء الإبداع الممثلين لمصر في محفل فني وإعلامي كبير.
وهنا أدركت أن مهمة سفراء الإبداع من الفنانين والمثقفين والرياضيين والإعلاميين لا تقل أهمية عن ممثلينا من رموز الدبلوماسية المصرية العريقة، وتيقنت أنه لا بد من آلية لمراجعة ممثلي مصر في الوفود الفنية الرسمية أو الشعبية ولا مانع من التنسيق ليعي المشاركون في أي محفل خارجي رسالة مصر ومواقفها ودورها المحلي والإقليمي. حينها سيمثل هؤلاء قيمة مضافة للجهد الرسمي المصري وليس عبئًا عليه.