حق الشعب ولغز «المطور الزراعى»
كثيرون من أمثالى لا يتوقفون كثيرًا أمام الأرقام الحكومية رغم إيمانهم بأهميتها وأهمية اتخاذ قراراتهم فى الحياة بالبيع والشراء.. السفر والإقامة.. البقاء والرحيل.. بمثل تلك الأرقام.. فلا شىء فى حياتنا الآن يمكن أن يحدث دونها.
ورغم أننى من عشاق الكلمات لا الأرقام- المعانى لا الجبر والهندسة والقسمة والطرح وكل تلك الألغاز التى أجدنى حائرًا أمامها.. فإننى لا أستطيع الفكاك من هذه الأرقام، وأجدها تطاردنى أينما حللت.. وفى أى وقت من أوقات اليوم الذى صار هو فى حد ذاته رقمًا.
ولأن الأرقام عادة ما تخرج عقب اجتماع ما.. يحضره مسئولون.. تكتسب الأرقام أهميتها بأهميتهم وبالتوقيت الذى يجتمعون فيه.. أتابع مثل الملايين من أهل مصر ومن خارجها أيضًا ما يصدر من بيانات عن الاجتماع الدورى لمجلس الوزراء.. وأحيانًا مجلس المحافظين.. وكل ما له صلة بالسادة الوزراء والمسئولين فى الحكومة.
من هذه الاجتماعات.. اجتماع عقد مؤخرًا لمناقشة الموقف حاليًا مما نسميه عملية تقنين أراضى الدولة.. أو بمعنى أدق تقنين أوضاع المزارعين الذين تحصلوا على كمية من الأراضى معظمها فى الصحراء وقاموا باستصلاحها بغرض تملكها وفقًا للقانون.
تلك العملية التى تتولاها لجنة عامة.. تفرعت إلى عدة لجان وعرفت فيما بين المزارعين من أهلنا فى الوادى والصعيد باسم «لجنة محلب».. ليست مجرد عملية حسابية.. بل هى حياة ناس.. جل أحلامهم أن ينتهى الأمر بملفاتهم وقد حصلت على موافقة صريحة تفيد جديتهم وتملكهم لهذه الأراضى التى صارت هى كل أحلامهم وأمانيهم.. مستقبلهم ومستقبل أولادهم.. ومستقبل مصر أيضًا.. فكل شبر تتم زراعته فى هذه الصحارى الواسعة يعنى حتمًا خيرًا يضاف إلى خزائن مصر.. خيرًا يطعم أهلها وهذا أمر لو تعلمون عظيم.
المهم.. أن تلك اللجنة.. وقد مضت على تكوينها وبداية أعمالها سنوات ليست قليلة.. تتعرض لحالات شديدة من النقد من أهلنا فى المحافظات، حيث يتهمونها بالبطء الشديد فى التعامل مع ملفاتهم- وهنا نحن نتحدث عن مواطنين جادين بالفعل.. قاموا باستصلاح الأراضى التى تحت أيديهم وأنتجت خيرًا بالفعل ولا تنقصها سوى زيارة تلك اللجان للمعاينة ومن بعدها تسعير تلك الأراضى وتحصيل قيمة ما تقرره اللجنة ثمنًا لها.
هؤلاء يستغربون أن تمر كل تلك السنوات دون أن تتحرك طلباتهم التى تقدموا بها.. وقد ذكر بيان أخير للجنة الموقرة أن معظم هذه الطلبات «جاد» فما الذى يعطل الأمر، خاصة أن كل تصريحات الحكومة تصب فى اتجاه عملية الإسراع فى أعمال تلك اللجان.. هل عدد العاملين أو الأعضاء بهذه اللجان غير كاف مثلًا؟.
لقد ذكرت الأرقام أن هذه الملفات تقترب من الملايين.. فهل ستكدس هذه الملفات سنوات أخرى قادمة دون بت.. ويظل أهلنا على حالهم من الترقب والانتظار.. فلا هم حائزون لتلك الأراضى ولا استفادت خزانة الحكومة من أثمان هذه الأراضى؟!
أتصور أن جديدًا سيدب فى هذا الأمر، فاللهجة التى خرج بها بيان الاجتماع الأخير يشير إلى أن الحكومة عازمة على إنجاز التكليف الحكومى فى أسرع وقت ممكن.
فى السياق ذاته.. تذكرت لقاء السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى فى افتتاحه مشروع دلتا مصر.. يومها ذكر الرئيس أنه شاهد عبر الطائرة وهو فى طريقه إلى المشروع مساحات هائلة من الأراضى هى فى نطاق وزارة التنمية المحلية والمطورين الزراعيين.. وأن هذه المساحات لم يحدث فيها شىء.. لم تتم زراعتها.. يومها أمر الرئيس- على الهواء مباشرة- وزارة الزراعة ومن يعنيه الأمر بمراجعة الموقف.. ومعرفة لماذا يتعثر المطورون الزراعيون، وأمر بمساعدتهم حتى تتم زراعة هذه المساحات لتشكل إضافة أخرى لما أنجز فى المشروع العملاق «مستقبل مصر».. أو ما نعرفه بالدلتا الجديدة.
ذلك الجزء من خطاب الرئيس أشار إلى إحدى الصيغ التى أيقنتها الحكومة مؤخرًا خاصة فى محافظة الوادى الجديد وبعض المحافظات فى الوجه البحرى فيما يعرف بالمطور الزراعى.. وسمحت لى الصدفة أن التقيت أحدهم فى مدينة الخارجة.. وقد حصل على مساحة ٢٤ ألف فدان دفعة واحدة.. هذه الأرض تقع فى ظهير محافظة سوهاج التى ليس لها ظهير فعلى.. وعلى حدود محافظتى قنا والوادى الجديد.. ورغم أن أهلنا فى سوهاج وقنا معروف عنهم حبهم الشديد للزراعة وقدرتهم الفائقة على تحدى الصحراء وتعميرها فإنهم يشتكون من كونهم لا يستطيعون الحصول على فدان واحد فى ظل وجود هؤلاء المطورين الذين لا يثقون بهم.. فقد تحول بعضهم- بعض المطورين- إلى سماسرة جدد يطلبون أموالًا مضاعفة لما حددته الحكومة من أسعار خاصة فى محافظة واعدة مثل الوادى الجديد.
من ناحية أخرى، فهم يتخوفون من الشراء من هذا المطور بنظام الأسهم.. خوفًا من تعثره فى يوم ما وتكبدهم الخسائر معه على اعتبار أن «السيئة تعم».. ويخشون الإنفاق على أراضيهم، ثم تقوم المحافظة بسحبها إذا ما تعثر هذا المطور فيضيع عليهم ما أنفقوه.
عدد كبير من هؤلاء الذين التقيتهم يطلبون من الحكومة ممثلة فى محافظ الوادى الجديد مراجعة الموقف الحقيقى على الأرض لهؤلاء المطورين ومعاملتهم معاملة الأفراد الذين حصلوا على قطع عديدة من الأراضى بنظام المزاد ولم يفعلوا بها شيئًا، وتقوم المحافظة حاليًا بسحب هذه الأراضى منهم.. ومن ناحية أخرى، فهم يثقون فى المحافظة وأجهزتها لكنهم لا يثقون فى أصحاب الشركات أو الأفراد من هؤلاء المطورين، ويتعشمون لو أن المحافظة سمحت لهم بالتملك كأفراد بعيدًا عن هؤلاء المطورين.
باختصار.. هناك من «يحبس» الآلاف من الأفدنة من هؤلاء المطورين على أمل بيعها لآخرين كقطع صغيرة بأسعار مرتفعة.. وبعضهم تعثر بالفعل ولم يقم بالزراعة أو أنه فى أحسن الأحوال اكتفى بزراعة «وش الأرض».. ليحصل على التسهيلات الممنوحة للمبادرات القومية فى الزراعة.. مثل مبادرة زراعة الزيتون.
أثق فى ذكاء وفطنة محافظ الوادى الجديد ودقته وقدرته على الحسم وإعادة الأمور إلى نصابها مثلما أثق فى أجهزة الحكم المحلى ولجنة تقنين الأراضى، وأنها ستحسم تلك الآلاف المكدسة والمركونة فى أدراج المحافظات، فمصر- والعالم- وفى هذه الظروف الدولية الصعبة التى يعانى فيها الجميع من أزمة غذاء طاحنة.. لا يوجد أمامنا سوى أن نزرع وأن ندعم أهلنا الفلاحين الذين لا يطلبون شيئًا سوى عدم تعطيل حياتهم.