«الانتهازية» و«الجهل» فى التعامل مع أزماتنا
أحد مظاهر «الانتهازية السياسية» هو استغلال تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية وتحميل الدولة فى مصر تبعاتها.. الانتهازية هى أحد أوجه هذا السلوك.. لكن الجهل قد يكون الوجه الثانى له.. الانتهازية سببها الرغبة فى الكيد.. والعمل لحساب بعض ذوى المصالح.. والجهل هو عدم دراية بما يحدث فى العالم ورغبة فى تجهيل الناس به حتى يشعر الجميع أن الأزمة فى مصر فقط دون غيرها، وأنها ناتج سوء إدارة وليس نتيجة ظرف عالمى مركب وقهرى يعانى منه الأغنياء مثل الفقراء، ودول العالم «الأول» مثل دول العالم «الثالث».. من ذلك مثلًا اصطياد تصريح هنا أو هناك لصاحب مصنع يقول إنه قلل إنتاجه من سلعة ما.. أو إنه يعانى فى توفير المواد الخام من الخارج نتيجة أزمة سلاسل التوريد.. أو إن مبيعاته قلت نتيجة بوادر ركود متوقع فى العالم كله ويتحدث عنه الاقتصاديون منذ شهور.. السلوك المنطقى فى هذه الحالة أن ندعو لحل مشاكل المصنعين المصريين أو بمزيد من الفاعلية فى اللجنة التى شكلها مجلس الوزراء لحل مشاكل المستثمرين، أو أن نحاول تشخيص أسباب الأزمة، وهل لها أسباب عامة وعالمية، أم أنها ناتج تقصير حكومى فعلًا؟ هذا هو ما تفرضه الموضوعية.. والروح الإصلاحية الحقيقية، وهو عكس سلوك الاصطياد فى الماء العكر.. والفتوى بغير علم أو بجهل إن شئنا الدقة.. وعلى سبيل المثال فقد توقفت كثيرًا أمام تصريحات لصاحب مصنع أحذية مصرى شهير يقول فيها إنه خفّض إنتاجه نتيجة ضعف الإقبال على منتجاته، وإنه يعمل دون مكسب للحفاظ على العمالة لديه.. وفى الحقيقة أنا لا أرى فيما قاله الرجل أى كارثة.. فأى نشاط اقتصادى يمر بفترات صعود وهبوط حسب تطورات السوق.. وأى رجل أعمال تأتى عليه سنوات صعود يكسب فيها المليارات، ثم سنوات يكسب فيها أقل، وهو يحافظ على العمالة لديه، انتظارًا لمرور الأزمة ولأن العمال لديه تراكمت لديهم خبرات نوعية كبيرة صعب التضحية بها، وبالتالى فاحتفاظه بهم ليس مدعاة للمن ولا الأذى.. وهو أقرب لرد الجميل أو الحفاظ على أصول المشروع.. من ناحية أخرى أشك فى أن نشاطًا اقتصاديًا فى سوق عملاقة بحجم السوق المصرية لا يحقق أرباحًا.. وإنما يمكن أن نقول إن صاحب المصنع أصبح يربح أقل بعد أن كان شأنه شأن غيره يربح بالملايين أو عشرات الملايين.. من جهة أخرى كان لدىّ سبب شخصى للاهتمام بهذا المصنع تحديدًا، لأنى كنت مثل كل أبناء الطبقة الوسطى فى التسعينيات من زبائنه.. كان يقدم منتجًا جيدًا يستلهم تصميمات ماركات الأحذية العالمية بسعر مناسب وجودة مناسبة.. الحذاء العالمى الأشهر كان يصنع فى إنجلترا وقتها ويدخل مصر بسعر ٢٥٠ جنيهًا، وهو سعر مرتفع فى بداية التسعينيات.. المنتج المصرى كان يستلهم نفس التصميم بسعر تسعين أو ثمانين جنيهًا.. أى أقل من نصف سعر المنتج العالمى.. لذلك كان هناك إقبال عليه من الطبقة الوسطى المصرية.. منذ التسعينيات وحتى الآن حدثت تغييرات كبيرة.. الماركات التجارية العالمية أصبحت تصنع منتجاتها فى الصين وفيتنام وغيرهما من دول جنوب شرق آسيا.. تكلفة الإنتاج أصبحت أقل بكثير.. الحذاء العالمى أصبحت تصنع منه ثلاث أو أربع نسخ.. نسخة فاخرة وأصلية للمستهلك الأوروبى، نسخة جيدة جدًا فى الصين.. نسخة مقلدة تقليدًا متقنًا hi copy فى الصين أيضًا ونسخة شعبية رخيصة أو مقلدة.. كل هذه المنتجات وجدت طريقها إلى مصر إلى جانب منتجات أخرى مثل المنتج التركى مثلًا.. السوق كانت مفتوحة ولم تغلق سوى منذ شهور.. أسعار هذه المنتجات منافسة جدًا.. الحذاء ذو الماركة العالمية المصنوع فى فيتنام سعره قريب من الحذاء المصرى، الذى تراجعت جودته وأصبح يستخدم خامات أرخص وعمالة أقل مهارة عما كان «ربما بسبب وفاة جيل الأسطوات القدامى» وبالتالى الزبون المنتمى للطبقة الوسطى يفضل الحذاء العالمى الجيد جدًا حتى لو سعره أعلى بنسبة عشرة فى المائة.. آلاف المصانع فى العالم تواجه هذا التغير بالتخطيط والابتكار وتغيير طبيعة المنتج وفتح خطوط إنتاج جديدة.. لكن البعض هنا فى مصر يكتفى بالشكوى والصراخ.. ويجد من يتاجر بشكواه هذه.. رغم أنها قد تكون فارغة من المعنى.. أى مصنع فى العالم مطالب بتغيير نموذج عمله أو الـbusiness model الخاص به طوال الوقت.. على صاحب المصنع الذى يشكو الركود أن يجارى الزمن.. يصمم موديلات جديدة تناسب أذواق أبناء الجيل z.. يجرى أبحاثًا للسوق عن القدرات الشرائية للجمهور.. وهل يحتاج مثلًا لإنتاج أحذية شعبية أرخص سعرًا؟ هل يقبل الشباب أكثر على الأحذية الرياضية الخفيفة بدلًا من الأحذية الجلدية التقليدية التى كانت تستهلكها الطبقة الوسطى القديمة؟ هل هم فى حاجة لحذاء يليق مع الجينز الذى يرتديه الشباب؟ هل انتهى عصر الملابس والأحذية «الكلاسيك» أو الرسمية فى مصر؟ هذه كلها أسئلة على صاحب هذا المصنع الذى يشكو أن يجيب عنها.. وإذا كان لا يستطيع تغيير مجال خبرته فى صناعة الحذاء الجلدى، هل يمكن أن يبحث هو عن جمهوره.. هل يقيم معارض وتسهيلات فى نقابات مثل المحامين والصحفيين وجميع الهيئات التى يرتدى أعضاؤها الزى الرسمى ومن ضمنه الحذاء..؟ بعضنا لا يريد أن يعمل ويكتفى بالشكوى وبعضنا يستغل أى شكوى لينعق فى وجوهنا بالخراب، بينما هو جالس على شاطئ المحيط وقدماه فى الماء.