تغيير الفهم المادى للزواج
اتجاهات النقاش على وسائل التواصل الاجتماعى لا تعبر كلها عن مناحٍ سلبية أو ظواهر مصنوعة.. بعض القضايا الاجتماعية أصبحت تجد طريقها للنقاش عبر «السوشيال ميديا» التى ورثت جزءًا كبيرًا جدًا من دور وسائل الإعلام التقليدية، ومنها إدارة النقاش حول القضايا الاجتماعية بين أصحاب وجهات النظر المختلفة وإن اتخذ ذلك طابعًا أكثر شعبوية وأقل انضباطًا بطبيعة الحال.. من القضايا التى تصدرت النقاش مؤخرًا قضية «قائمة المنقولات الزوجية» التى يوقّع الزوج على استلامها كضمان لحق الزوجة فى حالة وقوع طلاق.. كان أول مظاهر اللا علمية فى هذا النقاش هو تعميم حالة فردية والتعامل معها على أنها حالة قانونية وعدم تحرى مئات الآلاف ممن علقوا على الموضوع للدقة أو أصل الخبر.. حيث اقتطع أحد مستخدمى السوشيال ميديا خبرًا لمحكمة النقض يبرئ شخصًا بعينه من تهمة تبديد المنقولات الزوجية الخاصة بزوجته هو على وجه التخصيص.. وزف المستخدم الخبر على صفحته قائلًا إن «محكمة النقض ألغت الاعتداد بقائمة المنقولات الزوجية» وهو خبر كاذب جملة وتفصيلًا.. واعتقد البعض أن ثمة قانونًا جديدًا صدر يلغى قانونية توقيع الزوج على قائمة المنقولات الزوجية.. وهذا أيضًا خبر كاذب جملة وتفصيلًا.. ومع ذلك فإن النقاش الذى ثار حول الموضوع يشى بأن ثمة تغيرًا اجتماعيًا ورغبة فى مناقشة ثوابت حياتنا ومسلّماتها.. خاصة تلك التى يتناقض بعضها مع طرق الحياة الحديثة، ويشى أيضًا بأن ثمة نظرة مختلفة للزواج لدى الأجيال الجديدة.. مع حرص من الشابات على ضمان حقوق المرأة واستغلال التحسن الكبير فى وضعها بعد ثورة ٣٠ يونيو والإجراءات المختلفة لتمكين المرأة المصرية ورفع الظلم عنها.. لكن هذا لا يمنع أن نستغل هذه المناسبة لإدارة مفهوم الزواج وهل هو مؤسسة تقوم على المشاعر مثل السكينة والمودة والرحمة أم مؤسسة تقوم على الاتفاقات المادية والقانونية والضمانات الإجرائية؟.. وهل يمكن الجمع بين الطبيعتين دون أن تجور إحداهما على الأخرى أم أن هذا صعب؟.. وجهة نظرى الشخصية أننا قد انسقنا فى العقود الأخيرة فى التعامل مع الزواج كاتفاق مالى وفى تحميل كلا الطرفين أعباء مادية لا قِبل للكثيرين بها، وفى التمسك بالشكليات المادية وكأنها هى الزواج.. ولم ينجح هذا كله سوى فى رفع معدلات الطلاق بنسبة كبيرة وملحوظة، وإلى فشل كثير من الزيجات بسبب الخلاف على الماديات، وإلى إرهاق الزوج أو الزوجين فى سداد تكاليف الزواج ما يمنعهما من الاستمتاع بمشاعر الحب والمودة قبل الزواج أو فى الأعوام الأولى منه، وإلى «تسليع» المرأة المصرية مثلما تم تسليع أشياء كثيرة فى حياتنا.. فإذا كان العريس قادرًا ماديًا، أحس بأنه اشترى الزوجة بنقوده من أسرتها بعد أن وفّى بكل ما طُلب منه.. وأنه عند أول خلاف يستطيع أن يطلقها و«يشترى» غيرها ما دام قادرًا.. وإذا لم يكن قادرًا وتكفلت العروس وأهلها بالمصاريف الضخمة أحست العروس بالاستقواء وربما بمشاعر سلبية تجاه ذلك الزوج الذى لم يدفع فيها مثلما يدفع الأزواج الآخرون.. والحقيقة أن كل هذا يقوم على فهم خاطئ لمؤسسة الزواج الذى يجب أن نغير من فهمنا له ومن الطابع الشكلى والطقوسى الذى يتخذه.. وأن نعلم أبناءنا ألا يتزوجوا إلا إذا اطمأنوا لشريك حياتهم المستقبلى وأنهم يريدون بالفعل أن يكملوا حياتهم معه.. وأن نتوقف عن جعل المجتمع بأمراضه وعيوبه طرفًا فى حياة الشاب الشخصية، كأن نقول للفتاة يجب أن تتزوجى وإلا انتقدك الجيران، أو نقول للشاب متى سنفرح بك كلما رأيناه.. لأن التأخر فى الزواج أفضل من خوص تجربة زواج فاشلة يترتب عنها أطفال وحقوق مادية وقضايا ومحاكم ونزاعات ما كان أغنى الطرفين عنها أو تأنى كل منهما واختار طرفًا يناسبه ويتلاءم مع طبيعته الشخصية.. وهكذا يمكننا أن نقول إن الزواج علاقة تعاقدية بين طرفين وإن كل حالة فيه تختلف عن الأخرى ولا يمكن تعميم نموذج موحد للتقاليد على كل البشر من جميع الطبقات والمستويات والحالات.. والمعيار الوحيد للزواج هو القلب والعقل، والارتياح النفسى مع التدقيق الشديد فى شخص كل من العريس والعروس ليعرف كل طرف طبيعة من هو مقدم على الارتباط به.. وهل هو شخص صادق أم مزيف؟ وما طبيعة عيوبه؟ وهل يمكن لشريكه احتمالها أم أنها لا تُحتمل؟ وما المميزات المقابلة لتلك العيوب؟ وهل تستحق المغامرة أم لا؟ وهل هو شخص قابل للنجاح المهنى فى المستقبل أم لا؟ وهل يرتاح كل طرف لشريكه نفسيًا وعاطفيًا أم أنه لا يطيقه ولا يشعر تجاهه بأى شعور خاص؟ هذه هى الجوانب التى تستحق أن يبذل الجانبان جهدًا فى دراستها والإجابة عنها قبل التفاوض حول المهر والمؤخر وقائمة المنقولات الزوجية، لأن هذه الضمانات فى أفضل أحوالها تضمن استمرار الزواج خوفًا من الحبس أو الخسارة المادية.. لكنها فى كل الأحوال لا تضمن السعادة ولا الحياة الزوجية الصحية ولا المودة والرحمة التى هى أساس الزواج.. والمعنى أننا فى حاجة لمراجعة فهمنا للزواج وممارستنا التى تنعكس على حياتنا ومعدلات إنتاجنا فى النهاية.. والله أعلى وأعلم