روسيا تخاطب العرب من القاهرة
إحدى الدلالات التى لا تخطئها العين هى اختيار روسيا الاتحادية أن تتحدث مع العرب من القاهرة.. زيارة سيرجى لافروف، وزير خارجية روسيا، يصعب التعامل معها على أنها زيارة عادية أو بروتوكولية.. إن لدى روسيا رسائل مهمة جدًا للعالم ولإفريقيا ولدول خارج هذين النطاقين اختارت أن تعلن عنها من القاهرة.. تشكو روسيا من رسم صورة غير موضوعية لها فى وسائل الإعلام الغربية ومن تحميلها مسئولية أزمة الغذاء فى العالم.. تحدث «لافروف» أمام مجلس جامعة الدول العربية لينفى عن بلده هذه الاتهامات.. قال إن أزمة الغذاء العالمية بدأت مع جائحة كورونا وليس بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وتحدث أيضًا عن عقبات من الجانب الأوكرانى تمنع وصول السفن للموانئ الأوكرانية لتعود محملة بالقمح، وقال إن هناك حوالى سبعين سفينة محتجزة فى موانئ أوكرانيا «رهينة»، وفق تعبيره، وإن من بينها بالمصادفة سفينة ذهبت لتجلب القمح لحساب مستوردين مصريين.. هناك اتهامات واتهامات متبادلة.. لكن هذا ليس موضوعنا.. فى العمق هناك تأكيد على دور مصر وعلى عمق تاريخى للعلاقات له شواهد ملموسة على الأرض.. من بين كل الدول الغربية لعبت فرنسا وروسيا أدوارًا عملية فى تحديث المجتمع المصرى والمساعدة فى تنميته.. فرنسا ساندت حلم محمد على وحفيده إسماعيل فى بناء دولة قوية.. وروسيا ساندت تجربة تنمية مصر فى الستينيات.. قدم الخبراء الروس جهودًا غير متكررة فى بناء السد العالى ومصانع القطاع العام وفى بناء حائط الصواريخ وتدريب جنودنا على السلاح الروسى بعد هزيمة ١٩٦٧.. على مسئولية الأستاذ محمد حسنين هيكل فى كتابه «لمصر لا لعبدالناصر» فإن السلاح الروسى كان يقدم لمصر بسعر أرخص من السلاح الغربى بنسبة ٣:١، وإن الفوائد على ثمنه كانت رمزية بقيمة ٢٫٥٪.. فى حين كانت فوائد القروض الغربية تتراوح بين ١٥٪ و ١٨٪.. تعرض تقييم الدور الروسى فى مصر لتأثيرات التحول السياسى فى السبعينيات ونفوذ الإخوان المسلمين واختصار الاتحاد السوفيتى فى «الإلحاد» وهذا خلل كبير بكل تأكيد.. قال أشهر داعية فى مصر إنه سجد لله شكرًا على نكسة ٦٧ حتى لا يقال إننا انتصرنا ونحن فى أحضان الشيوعية!! وكانت المفارقة أن السلاح الذى خضنا به معركة التحرير كان سوفيتيًا وأن الصواريخ التى حمت العمق المصرى فى أكتوبر كانت سوفيتية.. تنتهج مصر حاليًا سياسة متوازنة أقرب للحياد الإيجابى.. لا تغلق الباب أمام صديق وتمنح نفسها حرية الاتفاق والاختلاف وفق منظومة أمنها القومى.. جاء لافروف للقاهرة ليطمئن مصر أن بإمكانها استيراد أى كمية تريدها من القمح الروسى، ويشير لزيادة التبادل التجارى مع مصر خلال عام واحد بنسبة ٥٪، إجمالى حجم التبادل حاليًا ٤ مليارات دولار قابلة للزيادة مع مسارات واضحة للتعاون سواء فى بناء مفاعل الضبعة النووى أو فى المنطقة الصناعية الروسية.. على عكس ما يتخيل البعض.. فإن كل خطوة تخطوها تجاه قطب عالمى تؤدى لاقترابك من القطب الآخر.. عندما أصدر الاتحاد السوفيتى إنذاره الأول لقوى العدوان الثلاثى على مصر، سارعت الولايات المتحدة للتدخل وأقنعت حلفاءها بالانسحاب بإنذار تالٍ لإنذار الروس.. وعندما تفانى الاتحاد السوفيتى فى تقديم الدعم العسكرى لمصر عقب نكسة يونيو ودخل إلى العمق المصرى لبناء حائط الصواريخ.. تدخلت الولايات المتحدة بإعلان مبادرة روجرز ١٩٧٠ وبدا أنها لا تريد ترك الساحة خالية للاتحاد السوفيتى.. فى كل الأحوال فإن تحركات السياسة المصرية خلال الأسبوعين الماضيين فقط تقول لك ما هو حجم الدور المصرى فى العالم، فقد ذهب رئيس مصر ليقابل رئيس أكبر قوة فى العالم ثم ليقابل رئيسى أهم دولتين فى أوروبا ثم رئيس دولة لها وضع خاص فى تأسيس حركة عدم الانحياز مع مصر.. ثم يلتقى وزير خارجية روسيا حين يعود ليستمع منه ويقول له.. نشاط يليق بحجم مصر ودورها الذى استعادته بعد غياب سنوات طويلة.