تكاتف السكاكين على الدولار
يقول المثل المصرى المشهور إنه «إذا ما سقط الثور كثُرت سكاكينه»، والمثل هنا لا يقصد ازدياد محاولات التخلص منه لضعفه بعد السقوط، إنما لمحاولة استغلاله، لأن الثور إذا مات إثر السقوط، لن يكون من المُمكن استغلاله اقتصاديًا، حيث سيصبح بلا قيمة اقتصادية حقيقية، بسبب شروط الذبح المعروفة، التى تُبيح الأكل لدى المسلمين.
ينطبق الوضع تمامًا على الدولار الذى يعانى من تكاثر السكاكين للتخلص من سيطرته، وتعظيم الاستفادة من الوضع السياسى الضعيف للدولار قدر الإمكان، إذ أعلن الرئيس التركى قبل بداية القمة الثلاثية الروسية- الإيرانية- التركية، عن نيته مناقشة الرئيس الروسى للدفع بعملة أخرى بخلاف الدولار مقابل مشتريات بلاده من منتجات الطاقة الروسية، التى كلف إجماليها تركيا نحو ٥١ مليار دولار فى ٢٠٢١، من بينها ١٤ مليارًا من روسيا.
تشكل الطاقة المنتج الأكثر وزنًا فى سلة الواردات التركية، بأكثر من خُمسها، وبالتالى إذا نجحت البلاد فى الدفع مقابل جزء من هذه الواردات بعملة أخرى غير الدولار، لا سيما إذا كانت الليرة، فسيخفض ذلك الضغط على احتياطات النقد الأجنبى التركى التى تعانى نزيفًا حادًا، بسبب سياسات تسعير الفائدة غير الصحيحة التى يتبعها الرئيس التركى، بالإضافة لخفض مستويات التضخم التى لامست مستوى ٨٠٪ خلال الشهر الماضى، ما سيُشكل مخرجًا للرئيس، الذى يواجه انتخابات فى أقل من عام.
لم يكن الرئيس التركى أو غيره ليغامر بإلقاء تصريح مشابه فى ظل أوضاع سيطرة الدولار على الاقتصاد العالمى، خصوصًا على تسعير الطاقة، لكن هذه السيطرة تواجه مقارعة بدأتها الصين منذ مطلع القرن الحالى، وكان آخر إجراءاتها إعلان الرئيس الروسى عن أنه سيبيع نفطه بالروبل لمجموعة الدول التى تعادى روسيا، كاسرًا بذلك ارتباط بدأ فى منتصف القرن العشرين، عندما رُبط تسعير الطاقة بالدولار، وهو ما يشكل نقاط القوة الأهم على الإطلاق فى سيطرة الدولار على التجارة العالمية.
لكن ذلك الإعلان جاء بعد تحركات صينية خلال أكثر من ٣٠ عامًا مهدت الطريق له، بدأت بانضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية حتى تسهل دخول منتجاتها لأسواق العالم، الأمر الذى أدى لتسريع نمو الناتج المحلى الإجمالى الصينى مع الطلب العالمى الواسع على المنتجات الصينية منخفضة الثمن، ما أسهم فى دفع الناتج الصينى ليقترب من الناتج المحلى الأمريكى بشدة، لتتحول الصين إلى المنتج الأول والمستهلك الثانى فى العالم، بما يعزز من قوة الصين ويضغط على الاقتصاد الأمريكى الذى تربع على عرشى الإنتاج والاستهلاك العالميين لما يقارب ٥٠ عامًا.
لم يكتف الصينيون بذلك، بل بدأوا فى عقد اتفاقات مع دول العالم المختلفة، خصوصًا الأسواق ذات الاستهلاك الكثيف، مثل مصر، تركيا، البرازيل، وروسيا، لتعزيز التبادل التجارى بالعملات المحلية، عندما يخرج الدولار من دور الوسيط فى جزء من التجارة بينها وبين الاقتصادات الأساسية خارج أوروبا، وهو ما نجحت فيه الصين بشدة.
بينما الولايات لم تتخذ مواقف الدفاع، والحفاظ على عملتها من الضربات الموجعة التى وجهت من الصين، وإنما أسهمت فى تسريع هذا الاتجاه عندما استعملت الإدارات الأمريكية المتتابعة الدولار كوسيلة لتعميق أثر عقوباتها الاقتصادية على الدول المارقة فى نظرها، ومن بينها روسيا وتركيا ذاتهما، بالإضافة إلى نحو ٢٧ دولة أخرى أو آلاف المواطنين منها، حتى وصلت العقوبات لرؤساء دول ووزراء فيها، بما أشعر دول العالم بالضغوط المتنامية القادمة من سطوة «سلاح» الدولار، فعمدت إلى تقليل احتياطاتها منه، حتى وصل إلى مستوى ٥٨٫٨٪ من احتياطات العالم بعدما كان يبلغ نحو ٨٥٪ عام ١٩٧٠.
مجمل الضربات السابقة بالإضافة لظهور العملات المشفرة أسقطا الدولار، ضغطا على الدولار حتى أسقطاه، وباتت السكاكين تُرفع الآن من أصحاب هذه الضغوط وغيرهم، للاستفادة من الفراغ الذى سيخلفه انحسار تأثير الدولار على المدى الطويل.