نظرة أخرى لظاهرة مراكز الدروس الخاصة
أكثر ما يزعج هذه الأيام أننا اعتدنا على نمط من المعالجات السريعة للأخبار.. نصب فيها شحنة عاطفية من الغضب أو الفرح أو الرضا حول ظاهرة معينة ثم ننصرف لحال سبيلنا بعد ساعات.. دون أن نفهم تلك الظاهرة التى كانت تشغلنا.. وتثير سخطنا أو رضانا.. بل إننا ننساها وننشغل بخبر آخر يتصدر مواقع التواصل ليصبح «تريند» نلهث وراءه ونصب عليه شحنات غضبنا أو رضانا دون أن نفهم الكثير عنه أيضًا.. وقد ساعد على هذه الظاهرة تراجع مستوى البحث الاجتماعى فى مصر وغياب المتخصصين عن شاشات الإعلام التى تفضل استضافة بعض الدعاة ورجال الدين ليفتوا فى كل المجالات ما دام الجمهور يحب أن يسمعهم والشركات الراعية تضع حصة إعلانات كبيرة على البرامج التى يظهرون فيها.. من تلك الظواهر التى توقفت عندها كثيرًا وطفت على السطح أخيرًا موجة الاهتمام التى أثارها فيديو لمدرس فلسفة للمدارس الثانوية نشر «فيديو» يصور لحظة وصوله لمقر محاضرة يلقيها للطلاب وقد جاء فى سرب من السيارات الفاخرة.. ووقف عشرات من الطلاب فى انتظاره بطريقة منظمة رافعين لافتات تحمل اسمه وكأنه ينافس نجوم الغناء والموسيقى فى دخولهم على المسرح ومظاهر إعجاب جمهورهم بهم.. وبادئ ذى بدء فنحن إزاء «كليب إعلانى» تم إنتاجه بهدف الإعلان عن نشاط تجارى لمدرس ثانوى ينظم محاضرات مدفوعة لطلاب الثانوية العامة.. وبالتالى فمن المتوقع أن السيارات التى تظهر فى «الكليب» مستأجرة، وكذلك الطلاب الذين تم تنظيمهم بطريقة تليفزيونية وارتدوا ملابس بيضاء موحدة من الوارد أنهم حصلوا على مكافأة مالية أو محاضرة مجانية أو وجبة غذاء نظير جهدهم فى تصوير هذا الكليب الإعلانى.. هذا عن طبيعة المنتج الذى شاهدناه عبر وسائل التواصل وأثار دهشتنا.. بقى أن نضع مدرس الفلسفة هذا وزملاءه من ذوى الكاريزما فى السياق العام.. لنفهم مَن هم؟ ولماذا ظهروا؟ وكيف يمكن التعامل معهم بالسلب أو بالإيجاب؟.. ظاهرة «السناتر»، تعريب «center»، هى امتداد لظاهرة «الدروس الخصوصية» وهى ظاهرة يعرفها المجتمع المصرى منذ ذهب الأستاذ «حمام» مدرس اللغة العربية للتدريس لـ«ليلى» بنت الأغنياء فى قصر والدها فأوقعه حظه العاثر فى حبائل حبها كما رأينا جميعًا فى الفيلم الرائع «غزل البنات» للرائع نجيب الريحانى ١٩٤٩.. توحشت الظاهرة مع زيادة عدد السكان وقلة عدد المدرسين الجيدين فأسفرت عن محاضرات كبيرة للطلاب بدلًا من «الحصة» المنزلية التى كانت تحصل عليها مجموعات صغيرة من الطلاب، أو يحصل عليها الطالب بمفرده إذا كان والده ثريًا بشكل ما.. فى عالم الدروس الخصوصية فى المنازل كنا جميعًا نقصد المدرس الأفضل.. الذى لديه قدرة على الشرح.. الظريف.. الذى يجعلنا نحب حضور الحصة.. ما زلت أذكر خفة ظل مستر «ألبير» مدرس اللغة الإنجليزية فى الثانوى.. كنا نحجز الدرس الخصوصى من أول العام.. وما زلت أذكر بعض تعبيراته الكوميدية.. العلاقة مع المدرس الخصوصى غير إجبارية.. هو ليس مفروضًا عليك من المدرسة أن تسعى له.. أى مدرس ناجح يملك «كاريزما».. وهى ملكة التأثير فى الآخرين.. أو أن يحبك الآخرون.. موهبة ربانية لا علاقة لها بالكفاءة أو بالعمق الفكرى.. منحة إلهية لا علاقة لها بهل أنت مثقف أم جاهل.. هى التى جعلت عادل إمام نجم الجماهير، وجعلت مَن علّمه التمثيل يتجه للتدريس الجامعى لأن نصيبه من الكاريزما لم يكف لكى يصبح نجمًا.. «الكاريزما» هى التى تجعل داعية ما نجمًا للجماهير وتجعل المئات ممن هم أفضل منه مجرد موظفين فى الأوقاف أو أئمة مساجد صغيرة.. وهى التى جعلت عبدالحليم حافظ نجم الغناء فى حين أن أخاه الأكبر الذى علّمه الغناء لم ينل نصيبه من الشهرة مثله ولو بنسبة واحد على الألف.. وهكذا.. ظاهرة «السناتر» أعطت مسرحًا واسعًا للمدرس الذى يملك كاريزما.. فهو يحاضر للمئات.. والمحاضرات أصبحت مصورة.. وهو يملك عبقرية توصيل المعلومة حتى لو لا يعرف أى شىء سوى حفظ الدرس المقرر.. اذهب بفيلسوف عظيم مثل د. مراد وهبة لأحد سناتر الدروس الخصوصية.. سيهرب الطلاب فورًا.. لأن خطابه أعلى من مستوى فهمهم.. المدرس يملك عبقرية التوصيل.. وهو مثل الدعاة والروائيين والشعراء منذ بداية الألفية فى مصر، وسيادة قيم ما بعد الحداثة، قرر تحويل موهبته لسلعة.. تمامًا مثلما يفعل الداعية الذى يتقاضى المال مقابل شرح الدين، والروائى الذى يريد بيع ملايين النسخ، والمخرج الذى يفكر فى الجمهور قبل أن يصنع الفيلم.. «سيد العراقى» هذا نظير لهؤلاء.. لا يرى التدريس رسالة سامية مثل أبطال أسامة أنور عكاشة مثلًا.. يراه سلعة ويتفنن فى الإعلان عن سلعته بتعظيم قيمة السلعة وإظهار إعجاب الآلاف بها واستئجار سيارات فارهة توحى بالثراء وتقول لك إن كثيرين جدًا أقبلوا على السلعة التى ستشتريها لابنك.. فتفضل وأنت مطمئن.. ملك الفلسفة وعملاق الكيمياء وأسطورة الفيزياء.. جزء من سياق عام تم وضع مصر فيه خلال عقود سابقة.. فلا تحاسبوهم بمفردهم وحاسبوا من تسبب فى الوضع برمته.. المنطق يقول هذا.. ولكن ليس منطق سيد العراقى.