توابع النكسة
منذ هزيمة يونيو 1967، والتي تم تدليلها باسم «النكسة» حتى الآن يوليو 2022، تتوالى خبايا ما حدث فيها، ويظهر مدى وفظاعة ما فعلنا بأنفسنا، ورغم هذا لم تتم محاكمة المتسببين الفعليين فيها، صحيح أنه جرت بعد النكسة محاكمات صورية لبعض القادة العسكريين والطيران، ولكن الجماهير ثارت عليها وتمت محاكمتهم مرة أخرى بتهم محاولة الانقلاب على عبدالناصر.
في سبتمبر 1995 نقلت صحيفة «الأهرام» مشاهدات لبعثة استكشافية أرسلتها إلى صحراء سيناء أكدت العثور على مقبرتين جماعيتين، حيث روى شهود عيان أنهما تضمان رفات أسرى حرب مصريين عُزل قتلوا برصاص جنود إسرائيليين في حرب عام 1967، في قاعدة جوية وواد صحراوي قرب مدينة العريش.
وحسب بعض الروايات فإن جنود الاحتلال كانوا يأمرون الأسرى بحفر قبورهم بأيديهم والانبطاح على الأرض ثم تسير الدبابات فوقهم، وفي 2008 أنتجت إسرائيل فيلما سينمائيا اسمه "شاكيد"، يعرض ما قامت به وحدة من الجيش الإسرائيلي بعد انتهاء حرب يونيو 1967، حيث قامت بقتل 250 أسيرًا مصريًا ودفنهم في سيناء، وجاء في الفيلم أن بعضًا من الجنود المصريين دفنوا أحياء.. الفرقة العسكرية الإسرائيلية "روح شاكيد" قادها بنيامين بن اليعازر الذي شغل لاحقًا عدة مناصب وزارية، والفيلم أثار انتقادات واسعة في مصر.
وفي يوم 8 يوليو 2022 نشر صحفي إسرائيلي "ميلمان" على الموقع الإلكتروني لصحيفتي "يديعوت أحرونوت" و«جيروزاليم بوست» الإسرائيليتين، قائلًا إنه بعد 55 عامًا من الرقابة الشديدة، يمكنني أن أكشف أن ما لا يقل عن 20 جنديًا مصريًا قد أحرقوا أحياء ودفنهم الجيش الإسرائيلي في مقبرة جماعية، لم يتم وضع علامات عليها، مخالفًا قوانين أسرى الحرب، في منطقة اللطرون (قرب القدس)"، مضيفًا: "حدث ذلك خلال حرب 1967".
وحول أسباب تواجد الجنود المصريين في تلك المنطقة، أشار الصحفي «ميلمان» إلى أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كان قد وقّع قبل أيام من نشوب الحرب اتفاقية دفاع مشترك مع العاهل الأردني الملك الحسين بن طلال، الذي كان يسيطر على الضفة الغربية.
وقال «ميلمان»: "نشرت مصر كتيبتين من الكوماندوز في الضفة الغربية بالقرب من اللطرون، كانت مهمتهما هي الهجوم داخل إسرائيل والاستيلاء على مطار اللد والمطارات العسكرية القريبة، ووقع تبادل إطلاق النار مع جنود الجيش الإسرائيلي وأعضاء كيبوتس نحشون (تجمع زراعي تعاوني) وتم أسر بعضهم، وعند نقطة معينة أطلق الجيش الإسرائيلي قذائف هاون وأضرمت النيران في آلاف الدونمات غير المزروعة من الأحراش البرية في الصيف الجاف، ومات حرقًا ما لا يقل عن 20 جنديًا مصريًا في حريق الأحراش".
بعد هذا الإعلان، مرت فترة صمت لم نقرأ في إعلامنا أي شيء عما نشره الإسرائيليون، وحقيقة هذه القوات المصرية وسر توغلها داخل فلسطين أثناء حرب 1967.
لكن كانت هناك علامات استفهام على ترك تلك القوات دون تواصل في الوقت الذي كانت فيه معارك دائرة، لقد أدوا دورهم بكفاءة منقطعة النظير، وماتوا أبطالا، ولم يكن هناك سبب واحد لكي يحدث لهم ما حدث سوى الإهمال الشديد، والذي كان سببا لتلك الكارثة التي حلت بنا.. أحسنت السلطات المصرية صنعا من حيث المبدأ حين تفاعلت مع غضب الجمهور، وأسفر اتصال تلقاه الرئيس السيسي من رئيس الوزراء الإسرائيلي عن موافقة السلطات الإسرائيلية على فتح تحقيق كامل وشفاف، ولكن من المعروف أنها في تلك الوقائع تستغني عن الشفافية، مثلما حدث في شفافية التحقيق بمقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبوعاقلة.
أفراد هاتين الكتيبتين كانوا مقتنعين بعدالة القضية التي قاتلوا من أجلها، وأنهم على حق، لم تنقصهم الشجاعة أو البطولة، ولكن يبدو من القليل المتاح عنهم أن قادتهم العسكريين لم يكونوا على نفس القدر من الشجاعة أو الإقدام أو الإخلاص، كما يبدو أنه تم إجبارهم على القيام بعمليات خطيرة، مع عدم تزويدهم بمعلومات دقيقة عن الأرض، أو تخطيط مسبق للعملية التي سيخوضونها، كما لم تكن معهم خرائط تفصيلية لأهدافهم، كما يبدو أن علاقاتهم بالزملاء الأردنيين والفلسطينيين كانت متوترة وحذرة، فقد انسحبت القوات الأردنية دون أن تبلغهم، وهرب الأدلّاء الذين يقودونهم للمناطق المجهولة بالنسبة لهم، كما أن التضارب والتخبط في الأوامر الصادرة من القيادة العليا في القاهرة تسبب، بإشارات أحمد سعيد الإذاعية، ليس فقط في فوضوية عملية الانسحاب من سيناء، بل في إجهاض عملية عسكرية داخل أرض العدو كان يمكن أن تحقق قدرا، ولو بسيطا، من النجاح.
هؤلاء الأبطال يستحقون احترامنا لهم، وتقديرنا لبطولاتهم، وكشف وفضح دور من تسبب في نهايتهم المأساوية، فهم أطاعوا أوامر رؤسائهم، ولم يناقشوها لثقتهم في كفاءتهم وعقيدتهم القتالية.
روى السفير الإسرائيلي موشي ساسون، في كتابه "سبع سنوات في بلاد المصريين"، أنه كان يحضر معه «زر» من ملابس جندي إسرائيلي مفقود ليبحث عنه في مقابر اليهود، حيث تم دفن جثث إسرائيليين قتلوا في الحرب، وكان لا يكل من المطالبة بالبحث عن جثامين جنوده.