سُحب عدم اليقين الكئيبة
تلعب التوقعات دورًا حاسمًا فى تحديد الأسعار، إذ تدفع المستهلكين للإحجام عن الشراء فى حال تنبؤهم باتجاه أثمان السلع إلى الانخفاض، فيما يسارعون للشراء توقيًا لتحمل مزيد من التكلفة فى عكس الحال. سلوك المستهلكين المحكوم بتوقعاتهم يحدد كذلك سلوك المنتجين الذين يجرون مزيدًا من عمليات الاستثمار والتوظيف ردًا على التوقعات بارتفاع الأسعار، أملًا منهم بالمشاركة فى الأرباح، أما فى عكس الحال فإنهم يتحوطون من الانخفاض، بتقليل النفقات، وتسريح العمال.
تفقد التوقعات تأثيرها تمامًا، وتصبح عديمة الجدوى فى ظل ما يُعرف بعدم اليقين، وهى حالة من الضبابية الشديدة، يصبح معها خطرًا للغاية توقع اتجاهات الأسعار فى المستقبل، بسبب وقوع السوق تحت تأثير عوامل غير اقتصادية، يصعُب الحكم عليها بأدوات التحليل الكمى الاقتصادية التقليدية، وفى غضون عدة سنوات، ستُدرس الحقبة التى نعيشها حاليًا، كأحد أبرز الأمثلة على حالة عدم اليقين فى مناهج علم الاقتصاد.
ففى أسواق الطاقة تتنازع السوق تأثيرات الأزمة الروسية الأوكرانية التى يحاول الغرب فيها تشكيل قواعد جديدة فى لعبة العرض والطلب، عبر فرض حد أقصى لأسعار النفط الروسى، حتى يحد من استفادة آلة الحرب الروسية من العقوبات المفروضة عليها. وعلى جبهة أخرى يحاول ذات الغرب قدر الإمكان التمسك بسيناريوهات المناخ لعام ٢٠٥٠، التى تتطلب التخلى التدريجى عن الوقود الأحفورى الأشد تلويثًا للبيئة، والانتقال لوقود أكثر نظافة.
لكن ذلك غير ممكن فى المدى القصير تحت وطأة العقوبات المفروضة على روسيا، التى تمنع وصول النفط والغاز الروسى بانتظام للأسواق، وكذلك غير ممكن فى المدى الطويل بسبب خوف شركات النفط من ضخ استثمارات فى استكشافات نفطية وتطويرات للحقول القائمة، ستكون غير ذات قيمة فى المستقبل، مع التخلى عن الوقود الأحفورى والتحول للطاقة المتجددة، حتى إن الحكومة القطرية رفضت الالتزام باستثمارات لتطوير إنتاجها من الغاز لتخفيف أزمة الطاقة، إلا إذا التزمت الدول الأوروبية بشراء نواتجها فى مدى طويل يصل لنحو ٢٠ عامًا.
يحدث كل ذلك فى الغرب، دون النظر لحالة العملاق الصينى النائم تحت غطاء جائحة كورونا، وسيناريو الصفر حالة الذى فرضته الحكومة الصينية على نفسها، مع إغلاقات واسعة للنشاطات الإنتاجية خفّضت استهلاك البلاد من الطاقة بنسب مشهودة، وما إن بدأ السيناريو يتحقق وتنخفض الحالات، وتجلب معها فتحًا للاقتصاد، حتى فوجئنا بإعلان وزارة الصحة الصينية عن اكتشاف متحور جديد لأوميكرون، حذرت منظمة الصحة العالمية من تبعات انتشاره، وبالتالى ربما تعاود البلاد الإغلاق من جديد.
حالة عدم اليقين انعكست أيضًا على توقعات كبريات شركات وبنوك الاستثمار لأسعار النفط، ففى حين ذهب بنك جى بى مورجن لسيناريو يسجل برميل النفط فيه ٣٨٠ دولارًا، حال رد الرئيس الروسى على محاولة الغرب بفرض حد أعلى لسعر نفطه، بتخفيض الإنتاج بنحو ٥ ملايين برميل، ذهب سيتى بنك إلى القول بانخفاض الأسعار حتى مستويات ٦٥ دولارًا بسبب الركود الذى من المتوقع أن يضرب الأسواق بسبب ارتفاعات أسواق النفط وما تجلبه من مستويات عالية من التضخم، تدفع البنوك المركزية لرفع مستويات الفائدة.
ذات الأوضاع تقريبًا، تسيطر على السلع الأساسية بأكملها سواء فى أسواق المعادن أو الغذاء، فسلعة مثل الأرز مثلًا تخلى المزارعون فى آسيا عن الإنفاق على تخصيبها بالمعدلات المعتادة، بسبب ارتفاع أسعار الأسمدة لمستويات قياسية، تحت وطأة ارتفاع أسعار الغاز، فى ذات الوقت الذى تغلق فيه الصين أكبر المستهلكين، مما يُخفض الطلب العالمى عليه، ومعه انخفضت الكميات المتوقع إنتاجها بشدة، وفى ظل بوادر إعادة فتح الاقتصاد الصينى، وانخفاض الكميات المنتجة، ارتفعت أسعار الأرز صاروخيًا بما يزيد على ٢٥٪ من ثمنها قبل ٥ أسابيع، لكن ذلك غير نهائى، فى ظل الإغلاقات المتوقعة بسبب المتحور الجديد من أوميكرون.
سُحب كثيفة كئيبة إذن من عدم اليقين تلُف سفينة الاقتصاد العالمى، تجعل من الصعوبة بمكان تحديد اتجاهات الإبحار أو ارتفاعات الأمواج، أو حتى موعد المد القادم أو الجزر المنصرم، بما يضع السفينة كلها فى حالة التيه، ينعكس على سكان العالم فى الوقت الحالى بارتفاع حالات الجوع، وانخفاض معدلات البطالة، وتزايد معدلات الفقر، أما الدول فعدد كبير منها يواجه التعثر، وعدم السداد، وربما الإفلاس.