حكاية كارفالو والشاطر حمور
كنت في زيارة لألمانيا، منذ فترة.. وقتها انتقلنا بالأتوبيس السياحي من ميونخ إلى برلين.. وفي طريقنا توقفنا عند مطعم وجبات سريعة، لتناول غدائنا، وفيه تقوم على خدمة نفسك، باختيار وجبتك على صينية للطعام، ثم تذهب عند "الكاشير"، لدفع قيمة ما اخترته من أطعمة، تتوجه بعدها إلى طاولة للاستمتاع بطعامك.. المهم، أنه عند انتهائي من طعامي، قمت لمغادرة المكان، لأفاجأ بيد تمسك بذراعي ويستوقفني صاحبها، وهو يسألني: إلى أين أنت ذاهب؟.. فقلت له، سأكمل سفري.. قال: من سيرفع بقايا طعامك عن هذه الطاولة؟.. أنت مسئول عن ذلك، لأنه ليس هناك من يفعله بدلًا عنك.. خذ صينيتك، وضع المواد الصلبة في وعاء الفضلات، والسائلة في المكان المخصص لها، ثم ضع الصينية حيث مكان الصواني.. أحسست بالحرج، فشكرت الرجل على إيجابيته، وإرشادي إلى ما يجب عليّ فعله، وقد فعلت.. استكملت طريقي، وقد تمنيت أن تنتقل عدوى هذه الإيجابية إلى مجتمعاتنا، ليرد مَن يعلم، كل من لا يعلم، عما لا يجب فعله.. بالحسنى والموعظة الحسنة، تلك التي يدعو إليها ديننا الحنيف.. وتذكرت وقتها قول الإمام محمد عبده، حينما عاد من بعثته إلى باريس: "جئت من بلاد فيها مسلمون بغير إسلام، إلى بلاد فيها إسلام بغير مسلمين".
وهذه قصة، انتشرت أخبارها في الصحافة الأمريكية مؤخرًا، عن سيدة من ولاية فلوريدا، تدعى "فلايين كارفالو".. وتعمل مُقدمة طعام في أحد المطاعم Waitress، ولم يكن وقت عملها، لكن تصادف أن اعتذر أحد زملائها عن العمل لشعوره بالمرض فتولت هي العمل بدلًا عنه.. بدأت قصة هذه السيدة، عندما دخلت عائلة إلى المطعم وطلبوا طعامًا، وعندما قدمته لهم، لاحظت أن العائلة كلها تتناول عشاءها، باستثناء طفل صغير.. بعد قليل، ومثل أي Waitress جاءت لتسأل العائلة عن الطعام ومدى رضاهم عن مستوى الخدمة في المطعم، فشكروها وأكدوا لها أن كله تمام، وهذا أعطاها فرصة لتتحقق من وجه الطفل، الذي بدا فيه جروح شديدة، وقد غطي رأسه بـ"زنط".. فسألتهم عن سبب امتناع الطفل عن الأكل.. فقالوا إنه لا يريد تناوله الآن، وسيأخذه معه إلى البيت.
شعرت السيدة "كارفالو" أن الموضوع يخفي وراءه سرًا، وأن وضع الطفل غير طبيعي.. دارت من خلف الزوج والزوجة، وأشارت إلى الطفل الجريح، ورفعت من وراء ظهر والديه بمسافة، ورقة مكتوب فيها بالإنجليزية "إنت كويس؟"، فأومأ لها الطفل برأسه بما معناه إنه "آه كويس".. لم تصدق السيدة "كارفالو"، بل زادت شكوكها، وأحست بأن الطفل يتظاهر بأنه على ما يرام، ربما من الخوف فقط.. وبعد قليل، مرت ثانية، وبنفس الطريقة، رفعت للطفل ورقة مكتوب فيها: "محتاج مساعدة؟".. تردد الطفل أولًا، ثم أشار لها برأسه أنه "نعم، يحتاج المساعدة".. وأشار بيديه، بما معناه، لا يدري ماذا يفعل.
أخبرت السيدة "كارفالو" صاحب المطعم بالأمر، فأشار عليها بالاتصال بالشرطة، لإخبارهم بأن هناك طفلًا وضعه مُقلق.. وخلال دقائق وصل ضباط الشرطة وسألوا والديه، كما سألوا الطفل عن سبب الجروح في وجهه، وعدم تناوله للطعام.. اتضح أن الرجل زوج للأم، وأنه دأب على تعذيب وتجويع الطفل.. وأن الطفل يعاني من انخفاض شديد في الوزن وسوء تغذية، وقد امتلأ جسده بالجروح والكدمات.. فقاموا بالقبض على الأم وزوجها، وتوجيه تهم التعذيب والإهمال لهما، وتم إيداع الطفل المستشفي، وذكر المتحدث باسم الشرطة للصحافة، أنه لولا تدخل السيدة "كارفالو" وإصرارها على مساعدة الطفل، ربما كان قد مات.
وحكي رجل، أنه كان في أمريكا للتدريب والدراسة.. عندما وصل إلى مقر الجامعة، تاه منه مكان التدريب، ولم يستدل عليه.. فسأل سيدة أمريكية، تصادف مرورها إلى جواره، عن مكان الدكتور الذي سيتدرب معه، فصعدت معه سلالم، ونزلت أخرى، ودارت معه حول كل قاعة، وذهبت إلى عدة مكاتب، و"اتسحلت" معه بمعني الكلمة وهو محرج جدًا، ولم تتركه إلى أن وجد من يبحث عنه.. فراح يشكرها ويشد علي يديها، امتنانًا لما لاقته معه من عناء، حتى وجد أستاذه.. ثم سألها عن وظيفتها.. فقالت له: l'm The Dean يعني "أنا عميدة الكلية"!.
يقول سيدنا النبي، صلوات الله عليه، "ومَن مشي مع أخيه في حاجة حتي يقضيها له، ثبت الله قدميه يوم تزول الأقدام".. فالمساعدة الحقيقية بتطمينك الإنسان الخائف أولًا، "لا تقلق.. بسيطة بإذن الله، أنا معاك مش هسيبك غير لما تتحل المشكلة إن شاء الله"، وتشعره بأنك لن تتركه، كل إنسان حسب استطاعته.. لكن العبرة، أن تكون فعلًا أديت كل الذي في استطاعتك.. وليس مجرد، إذا سألك شخص عن خدمة تقول له، "اذهب إلى فلان، وقل له إنك من طرفي، وكله هيبقي تمام".
تخيل أن هناك شخصًا عنده مشكلة أو يحتاج مساعدة، ويدعو ربه ليل نهار أن يحلها له، ويستجيب الله، ويختارك، سبحانه، وتبقي أنت الوسيلة والأداة التي ينفذ بها المولى استجابته لدعاء هذا الشخص.. لو فكرت في الموضوع بهذا الشكل، ستعيد النظر ألف مرة، في "جودة الخدمة" التي ستقدمها لإخوانك، عباد الله، لأنك ساعتها ستكون أداة من أدوات الله، في رحمته بعباده.
■■■
يحكى عن "الشاطر حمور"، كبير اللصوص زمن السلطان قايتباي، أنه اقتحم وعصابته دار تاجر كبير اسمه "المرجوشي"، بالقرب من جامع الغمري بالقاهرة القديمة.. فوجئ التاجر بكبير اللصوص على باب غرفة نومه هو وزوجته.. فقال اللص حمور للمرجوشي: استر أهل بيتك، نحن اللصوص.. فقام المرجوشي وستر زوجته، ثم قال لحمور: خذ ما تريد ولا تقتلنا.. فقال الشاطر حمور: لن نقتلك، وما أتينا للقتل، فقط نريد الطعام ليومنا هذا.. فقال له التاجر: كم أنتم،.. فقال تسعة صبيان وأنا.. فأخرج لهم عشرة آلاف قطعة نقدية، لكل واحد منهم ألف قطعة.. فقال له اللص حمور: لا نأخذ إلا ما نحتاج له فقط وأخذ ألف قطعة، ورد للتاجر الباقي، تسعمائة قطعة.
وبينما اللصوص في طريقهم للانسحاب من الدار، لاحظ أحد اللصوص الصبيان علبة كانت تسمى- حُق- بضم الحاء وسكون القاف.. فطمع فيه اللص وأخذه وفتحه وتذوق ما بداخله، فوجده ملحًا.. فقال الشاطر حمور: بما إنك أكلت من بيت الرجل ملحًا، فلا يحق لنا أن نسرقه، وأمر الصبيان بجمع المال، ورده كله إلى التاجر، الذي أصر عن طيب نفس، أن يعطيهم أربعمائة قطعة، فرفض اللص حمور، فنزل التاجر إلى مائة قطعة، فزاد إصرار اللص، فأراد التاجر أن يعطيهم طعامًا، فانفعل اللص ورفض مجرد النقاش مع التاجر.
وخرج اللصوص دون أخذ لقمة من بيت التاجر، بسبب حبة ملح أكلها أحد صبيانه، لأن العُرف وقتها أن من أكلت طعامه، فمن حقه عليك ألا تؤذيه، ولو كنت لصًا... ومن شربت ماء في بيته، أو ألقيت عليه السلام ورده عليك، فلا يحق لك أن تسرقه أو تؤذيه، ولو كنت لصًا.. تلك كانت أخلاق اللصوص، زمااااان!!.
حفظ الله مصر، من كيد الكائدين.. آمين.