سلاطين باشا والمهدي
سلاطين باشا, ضابط نمساوي ولد سنة 1857م في فيينا وجاء إلى مصر سنة 1878، ودخل في خدمتها فعينه غوردون باشا حاكم السودان، حاكمًا لدارفور سنة 1884.
وخلال فترة حكمه لدارفور ظهر المهدي واكتسه كل مدن السودان، لجأ سلاطين إلى طرق عديدة لمعرف آراء جنوده اللذين يقودهم، كان معظم جنوده من المسلمين، وهم من سكان السودان والبعض المصريين، كان هو مسيحي، فكان لديه هاجس أن جنوده يكرهونه من أجل ديانته، فلجأ الى حيلة لمعرفة ما يدور في داخل نفوسهم وهم لا يصرحون بما في داخلهم إلا في حالات السكر، وكان يسكرون من شرب سائل اسمه المريسة يشبه البوظة أو شراب العرقي المعروف في مصر.
كان سلاطين يعرف ما يدور بين جنوده بواسطة الخدم حيث يستغل البغايا اللواتي كن يصنعن المريسة - أي الجعة الوطنية - وكان يشربها عندهن رجال الطبقات الدنيا، وكان الخدم يخبروه بأن رجاله وهم يتعببون هذه الخمر ويسكرون يتكلمون عن ثورة المهدي الذي لم يكونوا يعطفون عليه، ولكنهم كانوا يقولون إن الحكومة قد عينت في المراكز العليا ناسًا من النصارى لمحاربة المهدي؛ ولذلك فالنتيجة يجب أن تكون سيئة، ومما قالوه إنهم وإن كانوا يحبونه إلا أنهم يعزون ما أصابهم من الخسارة وما قاسوه من الآلام إلى أنه مسيحيٌّ، وكنت متحققًا بأن هذه الآراء ليست من ثمار ذهن الزنوج الذين لا يبالون بالدين وإنما هي من ذهن أولئك الجنود الذين يكرهونه ويشتهون إزاحة سلطته وبث روح العصيان بين رجاله.
كما جاءته الأخبار من الخدم بأن بعض الجنود الذين يذهبون إلى حانة البغي التي كان سلاطين يرشوها لكي تخبره بكل ما يدور في حانتها، قد ائتمروا على ترك الجيش وعرف ان الجنود يكرهونه لأنه غير مسلم.
لأجل هذا أعلن سلاطين اسلامه في دارفور وسط جنوده لكسب قلوبهم وولائهم ليتقوى بهم ضد تمرد القبائل وانتصارات المهدي الساحقة في كردفان، وبعدها وقع في الأسر واقتاده للخليفة محمد المهدي.
لقد عاش سلاطين باشا ستة عشر عامًا في السودان منها أربعة أعوام موظفًا وحاكمًا لإقليم دارفور، واثنتي عشر عامًا أسيرًا في بلاط المهدي والخليفة عبدالله.
يحكي في كتابه "السيف والنار أنه خلال فترة الأسر نظاهر بأنه خادم الخليفة وعينه الخليفة مستشارًا له وأكرمه ولكنه امتنع عن معاشرة النساء بعد زوجه الخليفة المهدي ثلاث مرات، فقد أهداه المهدي إحدى محظياته بعد أن أعتقها له، أعتذر سلاطين بأنه لا يستطيع أن يعاشر امرأة عاشرها الخليفة ثم عرض عليه الخليفة أن يتزوج بنت عمه ليصاهر القبيلة ويتشرف بالقرب من الخليفة وكان الخليفة يهدف من ذلك الزواج كسب ولاء سلاطين باشا بالتصاهر والولد.
ولكن سلاطين أدرك الخدعة فأعتذر قائلًا إنه ربما يرتكب حماقة بالإساءة إلى بنت عم الخليفة مما يترتب على ذلك عواقب وخيمة لا يستطيع احتمالها في مواجهة القبيلة الملكية وكان ذلك اعتذارًا مبطنًا بعدها صرف الخليفة عنه النظر انتظارًا لسانحة أخري، وظل الخليفة يهديه المحظيات الجميلات كلما رضي عنه، ويراوغ سلاطين ويعرض عنهن.
ثم اعترف في كتابه بأنه تزوج مصرية أرسلها له الخليفة ولكن أرسلها إلى أمها الحبشية بأم درمان عندما جاء أهلها لزيارته بالمنزل كان يخشى ان يظن الخليفة أنه اختلط بالأهالي.
ولعلنا نتساءل إذ كيف يمكن لرجل عاش 16 عامًا في السودان وتزوج ثلاث مرات وتمتع بالمحظيات والسراري دون أن ينجب، مع أنه تزوج في فيينا بعد عودته وأنجب بنتا واحدة.
حرص الخليفة على مراقبة سلاطين وهو في الأسر ووضعه تحت عيونه طوال الوقت لذا أمره بملازمة بيته وتأدية الصلوات الخمس بالمسجد، ويعتقد سلاطين أن الخليفة سعي لتقريبه لسببين الأول أنه يدرك أن فرار سلاطين وهروبه يعني سعيه لأغراء الحكومة المصرية والدول الأوروبية الأخرى لفتح السودان وغزوه وأسقاط حكم المهدية.
والسبب الثاني هو أنه يسعي لإرضاء كبرياءه الشخصي حتى يري أعضاء قبيلته أن سلاطين الذي حكم دارفور يعمل تحت أمرته وهو أسير ذليل يرجو رضاء الخليفة ويقبل يديه ويسعي لطاعة أوامره دون أبطاء.
أوحي سلاطين لأهله أن يكتبوا خطاب شكر للخليفة باللغة العربية، حتى لا يشك في أمره مع أرسال بعض الهدايا الشخصية له، وعندما وصل خطاب الشكر من أسرته للخليفة أمر بكتابة رد عاجل يدعو أسرة سلاطين الى زيارة السودان للاطلاع على أحوال أبنهم الذي يتقلد مكانة كبيرة في الدولة وكتب سلاطين في ذيل الخطاب باللغة الألمانية لأشقائه ألا ينخدعوا ويصدقوا دعوة الخليفة واعتذرت عن تلبية الدعوة لانشغال أشقاء سلاطين في خدمة الجيش وإمبراطور النمسا.
أستطاع سلاطين أن يهرب من أسر الخليفة بمساعدة وتدبير قنصل النمسا في القاهرة والسير ونجت حاكم سواكن، وقد ساعده على الهرب كثير من السودانيين عبر خطة محكمة أشترك فيها أكثر من عشرين شخص تولي كل منهم تنفيذ مرحلة من المراحل.
لعل بعضهم كان دافعه الأكبر الحصول على المكافأة والمال الذي وفرته أسرة سلاطين في النمسا عبر القنصل بالقاهرة، ولكن بعضهم كان متعاطفًا معه حسب روايته، ليستدل بذلك على الانقسام الداخلي الذي كانت تعانيه المهدية في ظل حكم الخليفة عبدالله، حسب رواية سلاطين فقد أشترك في تهريبه أفراد من قبائل سودانية ومصرية عديدة منها الشكرية، جهينة، الأمرار، البشاريين، الكبابيش والعبابدة، وذكر في كتابه أسماء الذين ساعدوه على الهرب بكثير من الشكر والامتنان.