محنة القانون اجتماعية
تم ضبط طالب دراسات عليا فى مرحلة الدكتوراه متلبسًا فى واقعة غش فى مقرر أتولى تدريسه، لهذا تم استدعائى؛ لكى أدلى بشهادتى فى ورقة الإجابة فيما إذا كانت دليلًا قاطعًا على حدوث الغش أم لا، وفور حضورى وجدت الطالب ومعه مجموعة من زملائه يحاولون باستجداء شديد التأثير على موقفى؛ لكى أتعاطف معه لتبرئته. وكان ردى أننى سوف أبذل قصارى جهدى للتأكد من الواقعة ولن أتردد فى تبرئته إذا كان مظلومًا.
فى طريقى إلى اللجنة كان أحد الأساتذة الزملاء على علم بالواقعة، وكان غاضبًا بشدة، وتحدث معى من منطلق ضرورة أن يتم استغلال هذه الواقعة؛ كى أتضامن فى الاتجاه نحو معاقبة الطالب بأشد العقوبات، وهى فصله من برنامج الدكتوراه على نحو ما يفعل الطبيب الجراح باستئصال الأورام الخبيثة لإنقاذ حياة المريض، أدهشنى هذا التشبيه، والذى يعبر عن كون الجامعة تجسيدًا للجسم المريض الذى أعياه الوهن ويستوجب إنقاذ ما تبقى له من حياة، بدت على وجه زميلى علامات الامتعاض من حالة حيادى فى أمر يرى فيه كارثة محققة سوف تطيح بأمجاد النظام الجامعى، حسب تعبيره.
حين قابلت رئيس اللجنة شكرنى على سرعة الاستجابة بالحضور، مؤكدًا أن الواقعة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة ولم يكن مندهشًا مما حدث، فقد اعتاد بحكم عمله على تفشى ظاهرة الغش بين طلاب الدراسات العليا، وحين سألته عن الإجراءات التى تتخذ أشار إلى أن الأمر بسيط للغاية: عمل محضر لإثبات الواقعة ثم التحقيق القانونى، وفى حالة ثبوت الاتهام يحرم الطالب من أداء الامتحان فى المقرر الذى ارتبطت به واقعة الغش، ثم يعود الطالب لاستكمال الامتحانات، وأشار إلى أن هناك حالات كثيرة مماثلة لمعيدين ومدرسين مساعدين أصبحوا أساتذة، وهذا ما دفع بعض الزملاء إلى إلقاء اللوم على المراقب داخل اللجنة، والذى كان عليه أن يتغاضى عن الغش و«يكبر دماغه»، على نحو ما يشير التعبير الشعبى، الذى يدعو إلى عدم الاكتراث بالفضائل؛ لأننا «مش ها نصلح الكون» حسب تعبيره. وحين عبرت عن دهشتى الشديدة ضحك ساخرًا، ولا أدرى ما إذا كانت السخرية من سذاجتى أم من حالة التمثيل فى مسرحية التعليم العالى جدًا التى يشارك فيها كثير منا بضمير بارد، ثم وجهنى لمقابلة المحقق.
ذهبت إلى المحقق فى حجرته المعتمة بالبدروم، وكان رجلًا فى العقد الخامس من العمر يرتدى بدلة وكرافتة فى أجواء من الحر الشديد، استقبلنى الرجل مرحبًا بى ترحيبًا شديدًا، وكان سعيدًا للغاية بواقعة الغش وحاول أن يتخذ منها ذريعة للاتصال بعميد الكلية؛ لكى يبلغه بالواقعة، ويطلب مقابلته للتوقيع واعتماد محضر الغش، كان الرجل متحمسًا ومنتشيًا باقتناص دليل إثبات جديته وجدارته فى العمل، بما يعكس المثل القائل «مصائب قوم عند قوم فوائد»، وحين فحصت ورقة الإجابة ومصدر الغش وجدت تطابقًا شديدًا بينهما، فأكدت على دليل حدوث الغش، طلب منى المحقق كتابة تقرير بذلك واستجبت له ثم انصرفت.
من المتوقع أن يبذل الطالب الغشاش كل ما فى وسعه محاولًا الإفلات من العقاب للعودة إلى حياة الغش ويتخرج فى الجامعة حاصلًا على الدكتوراه كشهادة دالة على كفاءته العلمية والأخلاقية. وليس لدىّ أدنى شك فى أن يجد الطالب من يسانده وعلى قدر ما لديه من قوة ونفوذ سوف يتحدد مصيره، إما التبرئة التامة، أو اللوم أو إلغاء المقرر الذى وقع به الغش أو الفصل النهائى من برنامج الدكتوراه وعدم التسجيل مرة أخرى لمدة عامين دراسيين، هكذا ينص قانون الجامعات.
هذه الواقعة تكشف لنا، على نحو مصغر، عن محنة القانون فى بلادنا، والذى لم يتحرر بعد من ثلاث سوءات فى ميراث الثقافة الشعبية والقضاء العرفى، وهى:
أولًا: عدم انفصال الحكم على السلوك المنحرف عن الحكم على مكانة الشخص مرتكب السلوك المنحرف، وهذا يعكس المثل الشعبى المصرى القائل «الناس مقامات»، بما يعنى اختلاف أقدار الناس، وبالتالى لا تجوز المساواة بين الجميع أمام معايير واحدة، والمثل الآخر القائل: «إللى ليه ظهر ما ينضبرش على بطنه»، أى من له قوة سوف تحميه من أى ضرر. ويعنى «الظهر» هنا القوة والنفوذ اللذين يمكنان الطالب الغشاش من عدم المحاسبة. ويترتب على ذلك الكيل بمكاييل متعددة للحكم على أى سلوك منحرف، بل وفى حالة ثبوت الاتهام بأى صورة من الصور يتم الدفاع عن المتهم والتماس الأعذار له. من قبيل «هو لا يقصد ذلك»، كما فى حالة الطالب الغشاش، وفى حالات قيام شخص بسرقة حلوى أو مواد غذائية من محل بزعم أنه يريد إطعام أطفاله المحرومين، تتم إعادة تفسير السلوك المنحرف بتبريره وبما ينزع عنه صفة الانحراف، مثل القول بأن من قام بهذا الفعل «شخص فقير ولا يجب أن نقسو عليه ويكفيه قسوة الحرمان»، على ذات المنوال يتم تبرير حالات النصب والاحتيال لدى بعض النساء بزعم أنهن «من الغارمات»، ويستخدم الدين فى التبرير بالقول: «ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء»، أو بالأقوال المأثورة: «ارحموا عزيز قوم ذل»، وبهذه الصيغة يتم انتهاك كثير من القوانين وعدم الاكتراث المجتمعى بها.
ثانيًا: الحساسية المفرطة لكل ما يمكن أن يهدد النظام الاجتماعى، واعتبار ذلك معيارًا مهمًا فى تحقيق الضبط الاجتماعى، فكل ما ينظر إليه على أنه يهدد النظام الاجتماعى يتحول إلى أولوية تسمح للقائمين على تنفيذ العدالة باكتساب شرعية وقوة أكبر فى تنفيذ أى أحكام ضد السلوك المنحرف باعتبار ذلك حماية للمجتمع، وكأن دورهم هو خلق حالة من الطمأنينة الاجتماعية تسمح لديهم بإعادة إنتاج مكانتهم الاجتماعية ووصايتهم على المجتمع. وبموجب ذلك يتم التحقيق فى أى سلوك منحرف دون الفصل بين العموم والاستثناء فى السلوك الاجتماعى، وهكذا يتم تضخيم سلوك الغش بالنظر إلى الغشاشين على أنهم رغم قلتهم فإنهم بؤر مهددة للصورة المثالية للجامعة بفضائلها وأنهم سبب كل وأى انهيار قائم أو محتمل للجامعة والمجتمع، وربما الكون ككل، واستئصال هؤلاء يصبح واجبًا مجتمعيًا لحماية الفضيلة. وهذا ما نلاحظه فى ديباجة الأحكام القانونية التى تطرح مقدمات تبرر الحكم وتعتبره انتصارًا للمبادئ والمثل العليا وحماية المجتمع من الأشرار.
ثالثًا: تحييد القانون بكل السبل الممكنة فى أى نزاع، إما بالتغاضى عن الانحراف أو مواجهته بالعرف والأساليب الودية وعمليات التوسط لفض النزاع. وبالتالى يصبح اللجوء للقانون على سبيل الاستثناء وليس القاعدة. ويصبح الموقف من القانون مزدوجًا وحسب مدى الفائدة المحققة من خلاله، حيث يتم اللجوء للقانون إذا كان مهمًا فى تحقيق منافع، ويتم التغاضى عنه إذا انتفت المصلحة الشخصية المباشرة منه، أو إذا كان مترتبًا عليه ضرر مباشر أو غير مباشر. ولعلنا نلاحظ أن الرغبة فى تحييد القانون هى ما يكمن خلف كل صور عدم الاكتراث لمواجهة الانحرافات، واعتبارها أمورًا عادية وشائعة بالقدر الذى يعطيها شرعية وينزع عن القانون شرعية وجوده مجتمعيًا. هذا يفسر لنا الفجوة الهائلة التى تتسع يومًا بعد يوم بين وجود قوانين كافية إلى حد الإفراط التشريعى لمواجهة المشكلات الاجتماعية، وعدم الاكتراث المجتمعى لمبدأ سيادة القانون، خاصة فى ظل ضعف المنظومة الرسمية وبطء عمليات التقاضى.