«مصر الرقمية».. حلم.. وليس شعارًا
أكتب بعد دقائق من انتهاء حفل افتتاح مشروعات مصر الرقمية الذى شرفه الرئيس عبدالفتاح السيسى، الافتتاح نفسه يعكس رؤية يحدها واقع وحلم تقيده ظروف، الفكرة الأساسية فى «مصر الرقمية» أن تلحق مصر بقطار التحديث الذى تأخرت عنه كثيرًا، عرف العالم «الإنترنت» كمنتج جماهيرى منذ منتصف التسعينيات ولم تتم إتاحته بشروط سهلة فى مصر سوى بعد ٢٠٠٥، ثم قامت ثورة يناير وما أعقبها من شلل فى أجهزة الدولة حتى منتصف ٢٠١٤.. كان كل هذا وقتًا ضائعًا من مسيرة تحديث الدولة المصرية.. إتاحة الخدمات الإلكترونية للمواطنين لا تعنى فقط توفير الوقت والجهد، ولكن تعنى أيضًا غلق الباب أمام فساد بعض الموظفين، حيث لا يوجد «الدرج» الشهير الذى يفتحه الموظف ليضع فيه المواطن المال مقابل الخدمة.. الرئيس السيسى كان واعيًا بهذه النقطة ضمن تشخيصه أمراض الدولة المصرية، وأظن أن هذا كان أحد أهم دوافعه للإسراع فى رقمنة الدولة المصرية، أما الدافع الثانى فلم يكن بعيدًا أبدًا عن الدافع الأول وهو تقديم الخدمة الحكومية للمواطن بطريقة كريمة لا تجعله يشعر بالإهانة فى الطوابير أو يسخط من طريقة معاملته من بعض الموظفين، فيتراكم مخزون الغضب لديه ويتخيل أن إسقاط الدولة هو الحل للرد على ما يتعرض له من معاناة.. بحسب ما قاله الرئيس فإنه تم إنفاق ما يقارب مئة مليار جنيه مصرى على مشاريع الرقمنة، والبنية التحتية الإلكترونية وتطوير مكاتب البريد، فضلًا عن جامعة معلوماتية جديدة كانت هذه المرة الأولى التى أسمع عنها رغم عملى بالصحافة والشأن العام، وأظن أن معظم الحاضرين كان مثلى يسمع عنها لأول مرة.. وقد لمس الرئيس نقطة فى غاية الأهمية حين قال إن كثيرًا من المشروعات تنقصها حملات للعلاقات العامة تبنى الصورة الذهنية لها، وأنا أظن أن شركة المتحدة للخدمات الإعلامية تملك البنية التى تمكنها من استحداث قسم للعلاقات العامة والتسويق السياسى وبناء الصورة الذهنية، وهو أمر مختلف تمامًا عن الإعلانات التجارية والتحريرية التى تديرها وكالة تابعة للشركة بكفاءة كبيرة، التسويق السياسى وبناء الصورة أمر آخر نحتاجه بشدة هذه الأيام لاعتبارات متعددة بعد أن انتهت مرحلة العمل فى تكتم.. إلى جانب الاستثمار فى بناء شبكة خدمات حكومية إلكترونية تعفى المواطن من التردد على مقار الوزارات والهيئات.. بدا من الواضح أن هناك رغبة فى نشر التعليم القائم على الإبداع فى مجال الذكاء الاصطناعى والبرمجة والتطبيقات الإلكترونية وهى أساس الثورة المعرفية الرابعة، ويكفى أن نتأمل قائمة أغنى أغنياء العالم لنجد الشباب الذين نبغوا فى هذه المجالات أصبحوا أغنى مليارديرات العالم خلال السنوات العشر الأخيرة.. ثمة حرص من الرئيس على الاستثمار فى الشباب المصرى ولكن الواقع للأسف يخذل الأحلام، فبحسب تقرير نشره موقع «بيزنس هارفارد ريفيو» فإنه من بين أكثر من ثلاثين شابًا عربيًا بارزين فى مجال الذكاء الاصطناعى لا يوجد سوى ثلاثة مصريين فقط!! وهو رقم يستحق التوقف بحساب عدد السكان على الأقل.. قال الرئيس من قبل إنه أجريت مسابقة لمنحة تدعمها الدولة لدراسة الذكاء الاصطناعى وكان عدد من اجتازوا اختبار القبول ضعيفًا جدًا، وربما قال إن من نجحوا كانوا مئة وعشرة شباب من إجمالى ٣٠ ألفًا تقدموا للمسابقة!!! الرئيس أعلن بالأمس عن أنه على استعداد لتمويل دراسة آلاف الشباب لهذا المجال الهام إذا وجد من تنطبق عليه الشروط.. فى الحقيقة أن الاستثمار فى الثروة البشرية كان إحدى سياسات مصر الناجحة فى الستينيات، وقد سافر عشرات الآلاف من المصريين الذين نالوا تعليمًا مجانيًا فى الستينيات إلى الخليج العربى وأوروبا وأمريكا وكانوا وما زالوا أحد المصادر الرئيسية للعملة الصعبة حتى الآن.. أظن أن الرئيس السيسى يريد الاستثمار فى الإنسان المصرى لكن تدهور التعليم الحاد منذ بداية الألفية حتى بدايات فترة الإصلاح والنهضة بعد ٢٠١٤ يجعل المهمة أكثر صعوبة، تسويق فكرة دراسة الشباب للذكاء الاصطناعى يحتاج لبرامج أطفال تناقش هذه القضايا ولتسهيل اقتناء أجهزة الكمبيوتر للأسر الأفقر ولبنية تحتية للإنترنت أكثر قوة وتسهيلات ائتمانية تمول هذا النوع من الدراسة، على أن يسدد الطالب أقساط القرض بعد أن يعمل، ولتكن البداية من الجامعة المعلوماتية التى أطالب بأن يسدد أحد بنوكنا الكبرى مصاريف دراسة الطلاب فيها على أن يسدد الطالب القرض بعد تخرجه، مع حملة إعلامية قوية تشرح ما هى الجامعة وما مزايا الدراسة فيها.. الأمر نفسه ينطبق على الأربعين جامعة التى قال د. خالد عبدالغفار، وزير التعليم العالى، إنه تم الانتهاء منها ولا يعرف الناس الكثير عنها، حيث لا بد من معرض احترافى للتعليم الجامعى على غرار معارض التعليم فى العالم يكون فيه لكل جامعة مندوبون يشرحون مزايا التعليم فيها والأسعار التى تقدمها ولماذا هى أفضل من غيرها؟ مع تسهيلات ائتمانية للطلاب المتفوقين والراغبين فى الحصول على قرض الدراسة، بحيث تبدأ هذه الجامعات فى العمل واستقطاب أعداد أكبر من الطلاب، وأظن أن هذا لن يحدث طالما كليات الآداب والحقوق لدينا تقبل كل منها ثلاثة آلاف طالب فى كل دفعة فى حين أن المنطق يقول إنها يجب أن تقبل ثلاثين أو ثلاثة فقط.. ورغم كل شىء فالأمل كبير طالما هناك رؤية واضحة تنفذها الدولة بمزيج من الصبر والجلد والأمل، والأهم أنها تحميها من تربص المتربصين.. والطابور الخامس، وهذا مهم جدًا هذه الأيام.