العبث بعقول المصريين
أكاد أجزم أن قسم «الشائعات» فى جماعة الإخوان الإرهابية تحول لأقوى أقسام الجماعة خلال السنوات التسع الماضية، ولا أعرف حقيقة هل تعاونت الجماعة مع مخابرات الدول التى ناصرتها فى تقوية هذا القسم وتدريب العاملين فيه أم أنها اعتمدت على خبراتها الذاتية والمتراكمة عبر العقود المختلفة منذ العشرينيات وحتى الآن؟.. لكن ما أنا متأكد منه أن المنطق يقول إن «الشائعات» هى سلاح الجماعة الأول فى هذه الفترة من عمر مصر وعمر الجماعة التى يمكن وصف رحلتها السياسية بأنها تراث ممتد من «الخيبة» السياسية، وسوء التقدير، وانعدام المهارة، فضلًا عن غياب الحس الوطنى أو انعدامه مما حدا بالبعض لأن يصفها وهو مرتاح الضمير بأنها جماعة تورطت حتى أخمص قدميها فى الخيانة.. لا تملك الجماعة سوى سلاح الشائعات بعد أن فشلت فى الواقع فشلًا مركبًا ومؤكدًا.. ففرصتها فى حكم مصر تحولت إلى وبال عليها وعلامة على فشل قادتها الإدارى والسياسى والوطنى، فلفظها المصريون وأطاحوا بها من سلطة صعدت إليها فى غفلة من الزمن، ودفعت «خيبة» قادة الجماعة وغرورهم وتجذر الإرهاب فى نفوسهم بالجماعة إلى مهاوى التهلكة، حيث رفضوا عرضًا بالمشاركة فى العملية السياسية وأعلنوا الحرب على شعب وجيش مصر ومولوا الإرهاب ومارسوه وشجعوا عناصرهم عليه اعتقادًا أن ذلك سيسقط الدولة المصرية أو سيهز استقرارها، أو سيوقف عجلة التنمية فيها، لكن رهانهم ذهب أدراج الرياح.. فلا الإرهاب انتصر، ولا التنمية توقفت، ولا الدولة اهتزت، ولا الدول التى آوت الإخوان واستخدمتهم استمرت فى مواقفها ضد مصر، ثم كان موعد الإخوان مع الخيبة الثالثة حين ظنوا أن الأزمة الاقتصادية العالمية يمكن أن تجبر مصر على إيقاف العمل فى المشروعات القومية أو تبطئ العمل فيها أو تحدث نوعًا من الاحتقان السياسى والاجتماعى لدى المواطن يدفعه للتعبير عن الضغط بالانفجار أو الاحتجاج أو التخريب.. لكن المصريين ضربوا مثلًا فى الصبر والاحتمال والتفهم رغم مشاعر الضيق وهى مشاعر طبيعية، وضربت الدولة مثلًا فى إدارة الأزمة وتوفير الغذاء وبناء شبكات الضمان الاجتماعى ومواصلة العمل فى المشروعات بنفس الوتيرة، ثم كانت الخيبة الرابعة حين راحت الدولة تستعجل فى افتتاح مشروعات النقل والاستصلاح وغيرها ليدرك المواطن أن صبره لم يذهب هباءً، وأن من وعد أوفى وسيفى بما وعد به، وأن ثمة أملًا يمكن أن نصل إليه بمزيد من الصبر والعمل.. أظن أن هذه العوامل دفعت تلك الجماعة الإرهابية لاستغلال إقدام المصريين على التواجد بكثافة على موقع مثل فيسبوك «٤٦ مليون مصرى يستخدمون الموقع»، فضلًا عن تحكم مسئولى الموقع فى محتوى كثير من الصفحات الصحفية ذات الجماهيرية الضخمة فى مصر، أظن أن قسم الشائعات فى الجماعة أراد استخدام هذه الميزة النوعية، فضلًا عن انتشار الجهل بين أعداد كبيرة من مواطنينا وشيوع طرق التفكير العاطفية، فضلًا عن ثقافة رجعية مغلوطة تم نشرها بين المصريين خلال نصف القرن الماضى بفعل فاعل كما أشرنا وفصلنا من قبل.. أدركت الجماعة أن الحديث عن مفاهيم سياسية مباشرة مثل «الشرعية» و«المؤامرة» و «الانقلاب» قد تجاوزها الزمن، فضلًا عن أنها صارت محل سخرية من المصريين، وبالتالى فإنها لجأت إلى نوع من الإثارة فى معالجة القضايا الاجتماعية وحوادث الرأى العام تهدف منه إلى نشر الأفكار الرجعية، والمعادية للتطور، ونشر البلبلة والإحساس بعدم عدالة القضاء المصرى الذى طالت أحكامه العديد من قادة الجماعة بتهم الإرهاب والخيانة.. لذلك تنطلق قواعد الجماعة ولجانها الإلكترونية للتشكيك فى كل خطوة يتم اتخاذها فى هذا الاتجاه أو ذاك.. فإذا فاجأنا الحادث جميعًا، رفعت لجان الجماعة شعارات الفزع والخوف وانعدام الأمن وصورت الأمر وكأن كل الرجال يذبحون كل النساء فى الشوارع، وإذا تمت إحالة القاتل لمحاكمة عاجلة وفق إجراءات قانونية محكمة اعترضت لجان الجماعة على سرعة المحاكمة وطالبت بالبطء فيها!! وإذا سمح القاضى بتسجيل اعترافات المتهم وإذاعتها وفق مبدأ علنية المحاكمة اعترضت لجان الجماعة على السماح بالتسجيل رغم أنهم منذ أيام كانوا يبكون على حق الضحية نيرة أشرف، وإذا أحال القاضى أوراق المتهم للمفتى بعد اعترافه التفصيلى ووجود عشرات الشهود والتسجيلات الواضحة تنادى كوادر الجماعة للدفاع عن القاتل وإظهاره بمظهر الضحية، ثم يتبرع أحد أعضاء الجماعة لبدء حملة لما أسماه «دية القتيلة» رغم أنه لا دية فى القتل العمد ولا فى قانون الجنايات.. ثم يتطوع أحدهم بعرض مبلغ كبير على محام كبير كان من قبل محاميًا للرئيس مبارك والجاسوس الإسرائيلى عزام عزام ولعدد كبير من المتهمين بالفساد، ورغم أن حق أى متهم فى الدفاع عنه هو حق مكفول لا شك فيه فإن ملابسات معالجة اللجان الإلكترونية للقضية تجعل الأمر كله مدعاة للتوقف ولدعوة المجلس الأعلى للإعلام للضرب بيد من حديد على الحسابات التى تتبنى مثل هذه الدعوات الشاذة وتدعو أجهزة الأمن للتحقق مما قاله المحامى الكبير ومن الجهات التى اتصلت به وقال هو إنها فى «اليونان».. إننى أظن أن حادثة قتل نيرة أشرف لا تقل أهمية عن قضية «الشيخ على يوسف وصفية السادات» التى عرفتها مصر فى بداية القرن العشرين وانقسم المجتمع إزاءها بين معارض ومؤيد.. لم تكن القضية قضية قتل ولكن قضية تفريق بين زوجة تزوجت من تحب، وبين زوجها الذى رأى والدها أنه مجرد «جورنالجى» ليس كفؤًا لمصاهرة العائلات العريقة.. كل التقدميين وأنصار المرأة أخذوا صف «على وصفية»، وكل الرجعيين والمتطرفين دينيًا أخذوا صف والد صفية الذى أراد تفريقها عن حبيبها.. شىء من هذا يحدث حاليًا.. حيث يصطف الرجعيون والإخوان وبعض مدعى السلفية والإرهابيون وأنصار القتل وأعداء المرأة فى صف قاتل نيرة أشرف، ويصطف المؤمنون بحق المرأة فى الاختيار والتمرد والعمل فى الفن فى صف نيرة أشرف.. ومن الطبيعى جدًا أن يصطف الإخوان فى صف القاتل لأن هذا هو ما يؤمنون به وينفذونه.. ومن الطبيعى جدًا أن يصطف أنصار المرأة والتقدم فى صف «نيرة أشرف».. نيرة أشرف هى «زوزو» الشخصية التى صاغها صلاح جاهين عام ١٩٧٤.. بنت البلد الحرة التى تمارس حريتها ولا تبيع نفسها ويطاردها الطالب المتطرف «عمران» عضو الجماعة الإسلامية فى الجامعة.. «زوزو» تم اختطافها طوال السبعينيات وحتى ثورة يونيو.. وعندما سمح المناخ لفتاة ريفية مثل «نيرة» أن تتمرد مثل «زوزو» وأن تعمل فى الفن وأن تمارس حريتها ذبحها الطالب «محمد عادل» وريث «عمران» المتطرف الهستيرى المهووس بكلمة «جمعاء».. لذلك يصطف الإرهابيون والمتطرفون والإخوان خلف القاتل ويجمعون له التبرعات ويظهرونه فى مظهر الضحية لأنهم لا يريدون لزينب عبدالكريم أو زوزو التى رمزت وقتها لفتيات مصر أن تنال حريتها أو تمارس إنسانيتها.. نجاح المرأة المصرية حاليًا عنوان فشل جديد للإخوان.. وهم دائمًا ما يفشلون.