إتاحة النيل لكل المصريين حق دستوري
على نيل جاردن سيتى لمحت لافتة لمشروع «ممشى أهل مصر».. من الواضح أن هناك نية لأن يطوف «ممشى أهل مصر» بكل شواطئ النيل فى القاهرة.. فكرة الممشى هى أن يكون النيل متاحًا لكل المصريين.. الممشى مختلف عن المطاعم المقامة فيه.. الممشى نفسه متاح لمن يريد أن يجلس على النيل أو يصطحب طعامه أو شرابه معه.. المطاعم متاحة لمن يريد وهى خدمة سياحية، وإن كان من المهم طبعًا أن تكون أسعارها منطقية و«منافسة»، والمنافسة هنا مع المدن السياحية الأخرى فى الشرق الأوسط.. لا يجوز أن يقول سائح أجنبى إن تكلفة غدائه فى مطعم فى إسطنبول أو تل أبيب مثلًا عشرة دولارات وتكلفتها فى القاهرة عشرون أو خمسة وعشرون دولارًا.. لأن هذا يُخرجنا من المنافسة.. ومع ذلك شىء جميل أن يمتد مشروع الممشى وإتاحة النيل لمناطق جديدة فى القاهرة والجيزة.. الحكومة كعادتها دائمًا تعمل دون إعلان أو دون إعلام كافٍ.. وبالتالى يحدث نوع من استغلال هذا الغموض فى إثارة البلبلة.. أنا مثلًا أتابع الأخبار كل يوم.. لكنى فوجئت باللافتة التى تعلن عن مرحلة جديدة من الممشى صباح أمس.. من المهم جدًا الإعلان عن المشروعات وفلسفتها وشرحها للناس.. أظن وعلى سبيل الاستنباط أن إخلاء العوامات الأربعين على نيل الكيت كات سببه البدء فى مرحلة جديدة من الممشى.. الفكرة هنا عظيمة وهى إتاحة النيل لكل المصريين بدلًا من أن يكون محتكرًا من أصحاب العوامات الأربعين فقط.. احتكار الشواطئ العامة فى النهر والبحر غير دستورى ولا مثيل له فى العالم!.. من حق جميع المصريين الجلوس على النيل والاستمتاع بالبحر.. لذلك فتحت الدولة شاطئ العلمين للجميع.. وكان يجب أن يكون هذا هو حال جميع شواطئ مصر.. نيل القاهرة كله محتل بنوادٍ لفئات اجتماعية ومهنية دون غيرها وهذا ضد فكرة المساواة بين جميع المصريين.. على طول نيل الجيزة، رحمه الله، هناك نوادٍ لأعضاء هيئة التدريس والقضاة ولهواة التجديف ولأصحاب اليخوت ولشركة مقاولات كبرى وللجالية اليونانية والقضاة ولأعضاء النوادى الرياضية الكبرى والمحامين وللشرطة.. إلخ.. هذه النوادى تحتكر النيل وتمنع المصرى العادى من رؤيته.. والحل هو صيغة وسطية تحفظ لأعضاء هذه النوادى حقهم فى ارتيادها وفتحها فى نفس الوقت لكل المصريين من خلال شركة يتم تأسيسها بين المحافظة والوزارات المعنية وبين القطاع الخاص بهدف استثمار هذه النوادى وتحويلها لأماكن سياحية من درجات مختلفة ومتفاوتة مع الاحتفاظ بخصم خاص لأعضاء النادى الأصلى.. هذه الصيغة تضمن تدفق مليارات من القطاع الخاص للاستثمار فى هذه المطاعم السياحية وتضمن أرباحًا أكيدة لوزارة الرى والمحافظة وتضمن فرص عمالة وضرائب ودورات تشغيل وتضيف خدمات سياحية كانت غير موجودة وفى نفس الوقت تضمن إتاحة النيل لكل المصريين ولو بمقابل مادى.. بدلًا من حالة المنع والاحتكار الموجودة حاليًا.. نفس الأمر بالنسبة لأصحاب العوامات.. البعض بالغ فى تغطية أزمتهم وتشويه الفكرة الأصلية والتى تهدف لإتاحة النيل لكل المصريين، ولكن من جهة أخرى الجهة التى تبنى الممشى كان عليها أن تجرى حوارًا مع أصحاب العوامات على غرار حوار د. مصطفى مدبولى مع سكان منطقة القاهرة المعزية قبل البدء فى تطويرها.. وأظنه كان حوارًا ناجحًا لأننا لم نرَ أى اعتراض أو شكوى من الأهالى.. أنا أعتقد أن أفضل أنواع التطوير هو الذى يخرج منه الجميع رابحين.. العوامات منشآت خشبية لها طابع فنى.. ويمكن تحويل بعضها إلى مطاعم وفق صيغ شراكة معينة.. تدخل فيها المحافظة والرى لأنها تملك المرسى والشاطئ ويدخل فيها أصحاب العوامات بالعوامات نفسها وهى بالطبع فى حالة تحويلها لمطاعم ستكون متاحة لكل الناس بدلًا من كونها ملكية خاصة يحتكر أصحابها النيل لأنفسهم.. وأظن أن الربح المادى من هذه الشراكة سيكون بمثابة تعويض كافٍ لأصحاب العوامات.. مع عدم إغفال أن كتائب الإخوان وأذنابهم يستغلون الموضوع فى تشويه صورة الدولة لأنه يؤلمهم جدًا استمرار حركة البناء دون توقف لحظة واحدة.. يحلو للبعض تصوير الأمر وكأننا إزاء مسلسل «الراية البيضا» حيث تزيل جرافات الهيئة الهندسية كل معالم الحضارة والتاريخ من البلد.. وهذا تصور غير صحيح وغير منصف وله دوافع سياسية وإن كنت آخذ على من يعمل فى هذه المشاريع عدم إجادته شرح ما يفعل وعدم اللجوء للمختصين للدفاع عنه.. رغم أن الصورة الذهنية لأى مشروع والتسويق الإعلامى به لا يقل أهمية عن المشروع نفسه.. العوامات تاريخيًا كانت خارج البنية المعمارية والأخلاقية للقاهرة.. كانت تقرأ المسكوت عنه.. لذلك كتب نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل» وجعل أحداثها تدور فى عوامة.. ولذلك كانت منيرة المهدية تسكن عوامة على النيل لتتمتع بهامش حرية أكبر.. ولذلك اقتنى أحد مدعى المعارضة فى عهد مبارك عوامة ليوفق فيها الرءوس فى الحرام السياسى.. لا أقصد طبعًا المساس بالسكان المحترمين حاليًا.. لأن الوظيفة الاجتماعية للعوامة قد تغيرت مع مرور الوقت واتجاه المجتمع للمحافظة الأخلاقية الشكلية.. ولكن أقصد أن أقول إن الصورة الذهنية التى يروجها الإخوان وبعض القنوات الخاصة عن مشكلة العوامات هى صورة غير صحيحة وغير منصفة للطرف الغائب وهو الجهة التى تريد استكمال ممشى أهل مصر بغرض إتاحة النيل للجميع حتى ولو بمقابل مادى.. أنا متعاطف مع أصحاب العوامات ولكن لا أرى أن من حقهم احتكار النيل.. ومتفهم لجهد التطوير ولكن أرى أنه على القائمين عليه أن يتحاوروا مع أصحاب العوامات وأن يشرحوا نواياهم وفلسفتهم للناس.. وأثق أن النتيجة ستكون أفضل بكثير.