«مؤلّف إلا قليلًا».. عن المترجم وحدود دوره بين لغتين
يلعب المترجم الأدبي، دور الجسر بين ضفتين، الضفة الأولى هي النص المكتوب بلغة أجنبية، والضفة الثانية هو القارئ الذي سيتلقى ذلك النص مترجمًا إلى لغة القارئ.
وبناء على ذلك، فإن المترجم الأدبي يجب أن يكون ملمًا بالثقافتين، التي يترجم منها والتي يترجم إليها، لكي يتمكن من إيصال النص ومعانيه ومواطن جماله إلى اللغة التي سيترجم النص إليها.
ولكن يحدث في بعض الأحيان، أن تكون بعض جماليات النص، في لغته الأصلية، قائمة على خصوصية ثقافية غير موجودة سوى في تلك اللغة الأصلية، وهنا يتعين على المترجم، أن يجد في اللغة التي سيترجم النص إليها معادلًا للخصوصية الثقافية في لغة النص الأصلية. أي، أنه يصبح مطالبًا في أحيان كثيرة بأن يكون (مؤلف آخر) للنص.
في المساحة التالية تحاول "الدستور" الإجابة على السؤال التالي: إذا كانت الترجمة ضرب من التأليف، فكيف يتعامل المترجم (غير الأديب) مع هذه المسألة؟
عمر إبراهيم: إيصال المعنى والحفاظ على الجماليات
يقول المترجم المصري عمر إبراهيم: "تعتمد الترجمة الإبداعيّة بشكل أساسي على نقل المعنى، وأقصد هنا نقل المعنى كما هو، دون تلاعب أو تدخّل أو إضفاء تفاصيل جماليّة "فذلكيّة" ليس لها داعي في السياق، وهو ما يحدث كثيرًا من بعض المُترجمين الذين يظنّون أنّهم بذلك يزيدون النّص إبداعًا، فيما أنّ الأهم والأسمى هو إيصال ما أراده المؤلّف بدقّة، وبأمانة".
ويضيف إبراهيم المتخصص في الترجمة بين اللغتين العربية والإنجليزي: "دائمًا ما يصادف المُترجم تحدّيات من قبيل ترجمة الأمثال، أو تراكيب ذات خصوصيّة ثقافيّة، فيتعيّن عليه إيجاد مُقابل في لغته وثقافته يناسب المعنى، فيستعين به. فعلى سبيل المثال، إذا مرّ مُترجم بمثل مصري شهير مثل "يبيع الميّة في حارة السقايين"، أثناء ترجمته للإنجليزيّة، فقد يلجأ إلى أقرب مثل بريطاني يوصل نفس المعنى وهو: "Selling coal to Newcastle" (أي يبيع الفحم في مدينة نيوكاسل) ما يعني أن الفِعل/الأمر بلا فائدة، بدلاً من أي يترجمها مثلاً "لا جدوى من هذا"، بحيث يُحافظ على جمال التشبيه، وفي الوقت ذاته لا يقع في فخ الترجمة الحرفيّة. هذا، إجمالاً، ما يجب أن يفعله المُترجم غير الأديب: أن يجتهد في إيصال المعنى دون مساس به، وفي الوقت ذاته يُحافظ على جماليّات النّص دون تكلُّف. تلك -بلا شك- مُعادلة صعبة، ولكن لا بد منها".
رولا عادل: المترجم رسول بين الكاتب والقارئ
تترجم رولا عادل من اللغتين الروسية والإنجليزية إلى اللغة العربية، وحول حدود دور المترجم تقول: "هذه قضية شائكة جدًا في رأيي، أعتقد إن التعامل معها أشبه بالسير فوق الحبال. ينص القول المأثور على فرضية "المترجم خائن"، وتفسّر ذلك بكون النص ابن لغته، وتركيباتها ومشتقاتها، فإن فسّرت أو ترجمت .. وقعت في فخ الخيانة. في الواقع أراها مقولة خاطئة تمامًا، فحتى النصوص الدينية التي يعد تحريفها هرطقة خضعت للترجمة، ولها ترجمات معتمدة، الشرط هنا أن يكون المترجم قادرًا على تفسير النص كما أْنزل، وفي حالتنا، كما أبدعه صاحبه. لهذا لا أتفق أبدًا مع القول المأثور، فيما أرى أن الترجمة حرفة، وهي تعني أنك تعيد إنتاج نسخة أصيلة من النص، تلتزم به وبأفكاره، لا دخل لك بما يخبر، ولا تضع رأيك في النص، ولا تحرّفه ليتناسب مع أفكارك أو ما تظنه من تفسيره، وتلك هي الصعوبة التي أتحدث عنها، فالنصوص الأدبية في العموم تخضع لتأويل القارئ، وقد يخرج منها بمقاصد أكثر مما انتوى الكاتب في الأساس، لهذا عليك أن تكون حذرًا، أن تقدم الأمانة كما هي، وترضى بدور الرسول بين الكاتب والقارئ".
وتضيف رولا عادل: "لهذا أضع شرطًا أساسيًا في عملي بالترجمة، وهو العمل على النص دون تدخّل أو تحريف، فإن كان بالنص مثلًا ما يتعارض مع القيم الأخلاقية أو الدينية أو التابوهات في العموم، فأنا سأقدمه كما هو، لن أجمّل أو أغيّر ما يلزم. الجانب الآخر من الأمر يتلخص في أنني – وبشكل شخصي – أرى المترجم بالفعل "مؤلف إلا قليلًا"، وذاك في إطار تميًز ترجمته وأسلوبه واختياراته عن زملائه، فلكل منا طابع معروف يتعلق بالصياغة والتراكيب وأسلوب الكتابة بشكل عام. يبذل المترجم عمره ووقته في التعلّم وفي تطوير أدواته وتحسين صياغته، والاطلاع على ما يستجد في مجال اللغات واللكنات واللهجات، تلك أيضًا رحلة عمل وجهد كالتي يمارسها الأديب مثلًا في بدايات عمله على نصه الإبداعي، كلانا مبدعان! لهذا لا تتوقف مسألة الحقوق عند حقوق النصوص الأدبية، ولكن هناك أيضًا ما يسمى بحقوق الترجمة، لا أملك النص الأصلي بلغته، وإنما حروفي وما سطرته أنا بلغتي هو ملكيتي الخاصة، إبداع موازٍ كما أحب تسميته!".
وسام جنيدي: خيانات مشروعة
يكتب وسام جنيدي الرواية والقصة القصيرة، غير أنه قام مؤخرًا بترجمة رواية "الأمطار" للكاتب البريطاني سومرست موم.
ويرى جنيدي أن: "المترجمين حول العالم ينقسمون إلى فريقين، الفريق الأول يقول إن المترجم يجب عليه ألا يتدخل بأي شكل من الأشكال في سير النص أثناء ترجمته لأن ذلك يعد نوعًا من الخيانة للنص ومؤلفه بينما الفريق الثاني يصرح دائمًا أن التدخل وإضفاء بعض من روح المترجم الى سير السرد واجب وأن ذلك يعد خيانة مشروعة للنص وكاتبه بل خيانة واجبة في بعض الأوقات".
ويواصل جنيدي: "أتفق أنا دائمًا مع الفريق الثاني في مسعاه، ودائمًا ما أتساءل كيف لا يضع المترجم بعضًا من روحه وكلماته في النص المترجم؟ فدائمًا من يقوم بترجمة الأعمال الأدبية كتّاب قصة ورواية وهو الأمر البديهي لهذا النوع المتخصص من الترجمات، فإذا لم يضع المترجم من روحه ومفرداته، فلم تصر دائمًا دور النشر على أن يقوم بترجمة العمل الأدبي كاتب في المقام الأول؟ يحرص القائمون على أعمال الترجمة على أن يكون المترجم أديب في المقام الأول حتى يحرص على تناغم النص في ترجمته من البداية للنهاية، الحفاظ على الموسيقى والإيقاع الخاص بالرواية أو القصة من أولها الى آخرها. فكيف سيحدث هذا إذا لم يضع الكاتب بعض لمساته الفنية على اللغة والمفاهيم لتوصيلها؟ لن يحدث حتى يتشرب بروح النص ويضيف عليه، خاصة للمترجمين إلى اللغة العربية بمفرداتها ومحسناتها العديدة التي تساعد على إضفاء جمال خاص للعمل المترجم بل إن بعضهم يتجاوز لوضع مفردات من العامية الدارجة لأبناء بلده ليجعل القارئ لا يشعر بالغرابة في طرح الرواية أو القصة ليجعله ملتصقًا بفكرتها على الرغم من بعد الموضوع عن نشأته، وفي بعض الأحيان عن عادات بلده العربي ليحفزه على التخيل، بل إن بعض المترجمين يقومون بتحويل الأمثلة في النص الذي يقوم بترجمته بمثل مقابل من بلده فيقوم باختياره بلا تردد حتى يقترب النص من مفاهيمه للقارئ، فإذا لم يفعل المترجم كل تلك الأشياء التي تعد من وجهة نظري خيانات مشرعة وواجبة فما الفرق بينه وبين المترجم العادي الحاصل على الشهادات العلمية في الترجمة الذي يترجم النشرات الاقتصادية وما شابه؟".
أحمد مجدي منجود: المترجم كاتب محروم من نعمة التأليف
قدّم أحمد مجدي منجود إلى المكتبة العربية، العديد من ترجمات الأعمال الأدبية عن اللغة الإسبانية. ويقول منجود حول الحدود المتاحة أمام المترجم للتدخل في النص: "هالني بعض الشيء كلمة المترجم "غير الأديب"، في حين أن المترجم المتخصص في ترجمة الأعمال الأدبية ما هو إلا كاتب يفتقد مهارات التأليف، ولكنه في نفس الوقت يملك أدوات الكتابة الأدبية المتقنة. شخصيًا أحسد المؤلفين على هذه الموهبة التي لطالما نشدتها دون فائدة، إذ أن الأفكار عندي لا تتسق ولا تجري في ذلك المجرى الذي يؤدي إلى قصة أو رواية في نهاية المطاف. مشاعر وأحاسيس وكلام كثير يدور في داخلي ولكني في الأخير أقف متهيبًا أمام القلم أعجز عن أكتب به صفحة واحدة متسقة. على العموم، المترجم الأدبي هو كاتب محروم من نعمة التأليف، فيلجأ إلى الترجمة حتى يشفي غليله ويروي ظمأه الإبداعي. وأنا شخصيًا أتعامل مع النص الأجنبي معاملة الأم الحنون، أدرسه من جميع جوانبه وأحتويه وأشعر بكل كلمة مكتوبة أمامي، أحاول أن أرى بعين البصيرة ما وراء الكلام المكتوب من مشاعر، أجاهد حتى ألمس جوهر ما يقصده الكاتب فأضعه بقدر استطاعتي في نصي المترجم، لا أقول أني أخرج عن النص، أبدًا، أنا من ذلك النوع الذي يلتزم تمامًا بالنص، ولكني في نفس الوقت أترجم المعنى المقصود خلف الكلام، إذ أن الكلمة الواحدة في اللغة لها دلالات كثيرة ومن هنا أبدأ. فأي دلالة يقصدها الكاتب بهذه الكلمة؟ فأظل أبحث وأفكر ويصل الأمر إلى سؤال أهل اللغة أنفسهم حتى أصل إلى الجوهر المقصود".