الذين لا يفهمون التاريخ
كنت أراجع أرشيفى الصحفى عن العام الذى قضته جماعة الإخوان الإرهابية فى حكم مصر، فتوقفت أمام تصريح بدا لى غريبًا بمعايير وقتنا هذا.. التصريح كان لعصام العريان القيادى الإخوانى الراحل رحمه الله وغفر له ذنوبه فى حق نفسه ووطنه.. كان تصريح القيادى الإخوانى موجهًا ضد إخوتنا فى الخليج العربى، وكان منفلتًا بعض الشىء، أظنه كان يخاطب إخوتنا فى الخليج قائلًا «الفرس سيأتون لاحتلالكم»! لا أدرى فى أى سياق قال العريان هذا التصريح العدائى، ولماذا صاغه بهذه الصياغة الفجة التى تشير للخطر الإيرانى على أمن الخليج العربى، ولادعاءات تدعيها إيران بملكية بعض الجزر فى الخليج أو ما إلى ذلك من خلافات.. هذا الخطاب الفج من جماعة الإخوان كان محل رفض من المصريين جميعًا الذين اعتبر الكثيرون منهم أن الجماعة لا تدرك ثوابت ومحددات الأمن القومى العربى والمصرى.. تؤمن مصر بدورها كقوة إقليمية كبرى تعتبر أمن الخليج المصرى جزءًا من ثوابت أمنها القومى.. هذه السياسة المعلنة منذ عقود طويلة بمثابة رسالة بعلم الوصول تفهمها كل القوى الإقليمية وتضعها فى اعتبارها، وهى تحدد خطواتها فى المنطقة عمومًا وفى الخليج العربى خصوصًا.. فى عام ١٩٦١ قرر الرئيس العراقى عبدالكريم قاسم ضم الكويت الشقيق لدولة العراق.. لكن تحذير مصر من العواقب ورفضها للخطوة كان كفيلًا بعودة كل شىء إلى طبيعته فى ساعات.. نفس الموقف تكرر بحذافيره فى حرب الكويت الأولى ١٩٩١، حيث رفضت مصر ضم العراق للكويت وتعاونت فى خطوات تحرير الكويت من القوات العراقية.. قدمت مصر غطاءً عربيًا أضفى الشرعية على ما تم، ولولا موقف مصر لما سارت الأمور باليسر الذى سارت عليه.. ورغم غضبنا كطلاب مصريين من هذه الخطوة وقتها إلا أننى أدرك الآن أن حماية أمن الخليج العربى هو أحد ثوابت الدولة المصرية الوطنية بغض النظر عن أى متغيرات أخرى.. قواتنا المسلحة تلتزم بحماية أشقائنا فى الخليج كسياسة مصرية ثابتة عبّر عنها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى تصريح شهير حمل اسم «مسافة السكة».. المسألة ليست ذات بعد عسكرى فقط، ولكن ذات بعد ثقافى ودينى وعروبى أيضًا.. إذا حدث أى طارئ لا قدر الله فإن تدخل الجيش المصرى أمر مقبول جدًا من كل الأطراف.. لأن الجيش المصرى معروف بأنه لا مطامع له فى أى بلد وجنوده عرب ومعظمهم مسلمون، وبالتالى فإن وجودهم مع إخوتهم فى الجيوش العربية كتفًا بكتف أمر طبيعى ولا يثير أى حساسيات من التى يمكن أن يثيرها وجود أى حليف آخر لا قدر الله.. إن ما أقوله هو من بديهيات السياسة العربية التى أدركها حكماء العرب وأورثوها لأولادهم جيلًا بعد جيل، وليس سرًا أن الملك عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، أوصى أبناءه قبل رحيله بالاهتمام بمصر وهى نصيحة توارثها ملوك المملكة العربية السعودية واحدًا من الآخر، وهو نفس ما ينطبق على مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان الذى كانت محبته لمصر محبة صادقة أحسها المصريون وردوها أضعافًا مضاعفة.. إن ما توارد إلى ذهنى وأنا أطالع هذا التصريح، الذى أعقب القبض على مجموعة تابعة للإخوان فى بلد عربى شقيق عام ٢٠١٣ تسعى للاستيلاء على الحكم، أن المتطرفين يزدهرون فى مواسم الأزمات والشدائد، وأن خلايا التطرف النائمة تستغل الأزمة الاقتصادية العالمية وانعكاساتها على مصر لشحن الناس واستغلال معاناتهم وتشجيعهم على أن تدمير كل ما تم بناؤه هو الحل.. إن عودة المتطرفين للحكم هو أمر فى حكم المستحيلات.. حيث يقف لهم شعب وجيش مصر بالمرصاد، ومع ذلك فإننا لو رسمنا «سيناريو» خياليًا لهذه العودة المشئومة فإن الانعكاسات ستكون كبيرة على المنطقة كلها.. والسبب أن ما يحدث فى مصر يؤثر فى الوطن العربى كله سواء كان الحدث سلبيًا أو إيجابيًا وقد أثبتت كل وقائع التاريخ هذا.. فثورة يوليو.. أعقبتها سلسلة ثورات وطنية فى معظم الدول العربية كأنها توابع لها.. واتجاه مصر للتسوية تبعه اتجاه المنطقة كلها للتسوية بشروط وصيغ مختلفة وفى أزمنة متفاوتة.. وثورة ٣٠ يونيو أعقبتها موجة من سقوط نفوذ الإخوان فى العالم العربى وتوجه نحو الإصلاح الدينى فى كثير من دوله الهامة.. والمعنى أن الاستقرار فى مصر يعنى الاستقرار فى كل الوطن العربى، لذلك تسعى الدول العربية مخلصة للحفاظ على استقرار مصر، كما تبذل مصر كل جهدها للحفاظ على أمن واستقرار الدول العربية، والمعنى الواضح هنا أن المصلحة متبادلة سعيًا للتنمية والرخاء للجميع.. فمصر تمارس دورها كشقيقة كبرى ومركز ثقل حضارى ومصنع كبير للقوى الناعمة فى المنطقة.. لم تبخل على إخوتها أبدًا بثروتها البشرية من المدرس إلى المهندس، ومن الطبيب إلى المحاسب ومن الممثل إلى الموسيقى، ومن المغنى إلى الإعلامى وهم كلهم نتاج تعليم مصر وثقافة مصر وإعلام مصر، يساهمون فى نهضة هذا البلد الشقيق أو ذاك بحب ورضا وتشجيع من الدولة المصرية، وهذه كلها أشكال من الدعم تقدمها الدولة المصرية لشقيقاتها مساعدة لها على أن تتطور وتحقق ما تصبو إليه وفق مبدأ المصلحة المشتركة لا وفق أى مبدأ آخر، ومن يظن خلاف ذلك فهو ساذج لا يفهم حقائق التاريخ وكم بيننا من يدّعى الفهم وهو لا يفهم شيئًا.