ذكريات من يونيو 1967
في 16 مايو 1967، بعد أن تم الإعلان عن أن القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة في درجة الاستعداد القصوى لدخول المعركة ضد إسرائيل إذ سولت لها نفسها أن تهاجم الأرض العربية وفي نفس الوقت كانت حالة الطوارئ.
وفي إثر ذلك أُعلنت في إذاعة صوت العرب حالة الطوارئ في العاشرة من صباح الخميس 18 مايو 1967 في الطابق الثالث من المبني الكبير المطل على نيل القاهرة، وكان بين الحاضرين الملحنون محمود الشريف ومحمد الموجي وعبدالعظيم محمد، وفي هذا الاجتماع ظهرت ملامح خيوط الألحان التي تترجم أحاسيس الناس في فترات النضال، وليستمر الاتصال قائمًا بين عشرات الملحنين وبين لجنة الطوارئ في "صوت العرب" تتولاه لجنة خاصة لا تهدأ ولا تعرف الراحة.
في 29 مايو 1967، أعلن الرئيس عبدالناصر أنه هو الذي يقرر موعد ومكان المعركة.. تصريح أراح الكثيرين من القلقين على مستقبل المنطقة.
المذيع أحمد سعيد المعلق الإذاعي فقد كان يصيح يوميًا في إذاعة صوت العرب بحتمية النصر مع مقولته المشهورة: "تجوع يا سمك"، لأن العرب سيرمون العدو في البحر عند بدء المعارك، وكذلك فعل الكاتب محمد حسنين هيكل حينما يظهر ويحلل الاستعداد للحرب واثقًا من النصر المؤكد السهل.. وقال إن صواريخ الظافر والقاهر مع طائرات الميغ المتطورة الروسية الصنع بإمكانها مواجهة طائرات العدو الأمريكية والفرنسية الصنع.
في 30 مايو 196، هبط الملك في مطار القاهرة بطائرة يقودها بنفسه وبملابسه العسكرية، ومعه رئيس الوزراء سعد جمعة ورئيس الأركان عامر خماش، وقد قاد الملك الطائرة بنفسه، واجتمع بعبدالناصر بحضور زكريا محيي الدين وعلي صبري، ومحمود سليمان رئيس وزراء مصر، والفريق عبدالمنعم رياض، وتم التوقيع على اتفاقية الدفاع المشترك مع الجمهورية العربية المتحدة في نفس اليوم، وكان من ضمن بنودها أن يتولى الفريق عبدالمنعم رياض قيادة القوات المسلحة الأردنية اعتبارًا من 1/6/1967، واقترح الرئيس عبدالناصر إرسال كتيبتين من قوات الصاعقة المصرية لمساندة الجيش الأردني، وإرسال طائرات لتكون غطاء جويًا للجيش الأردني.
اتسمت الغالبية العظمي من الأغاني التي كانت تذاع بالدموية والتهديد والوعيد بإلقاء الإسرائيليين في البحر وتدمير إسرائيل وتل أبيب تحديدًا، ووصف المعركة بأنها محسومة لا محالة لنصرنا والحط من شأن وقدرة العدو، وقد يبدو الأمر طبيعيًا في حال الحرب، غير أن الدموية المفرطة والتهديد بحرق وقتل الإسرائيليين وإلقائهم في البحر، كما سنرى، وجد فيه العدو ذريعة ومبررًا لعملية القتل والإبادة الجماعية التي حدثت للجنود المصريين والمدنيين على السواء على الجبهة وحتى بعد صدور قرار القيادة بالانسحاب من سيناء مساء يوم السادس من يونيو وبعد يومين فقط من بدء المعركة.
مساء 9 يونيو 1967، تنحى جمال عبدالناصر عن رئاسة مصر متحملًا مسئولية الهزيمة في حرب 5 يونيو 1967، إلا أنه تراجع عنها في اليوم التالي بعد خروج ملايين الناس للتظاهر رفضًا لتنحيه.. لم يقتصر الرفض الشعبي لتنحيه على مصر وحدها، بل عم السودان ولبنان والعراق وليبيا وتونس والجزائر وسوريا والأردن، حتى الجاليات العربية في المهجر تظاهرت رفضًا لقرار استقالة عبدالناصر.
وقال عبدالناصر، في خطاب تنحيه الذي أذيع على كافة وسائل الإعلام: "هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسئولية تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق- وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي في الأزمة- فإنني على استعداد لتحمل المسئولية كلها، ولقد اتخذت قرارًا أريدكم جميعًا أن تساعدوني عليه.. لقد قررت أن أتنحى تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر".
وأضاف: "إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبدالناصر هو عدوها، وأريد أن يكون واضحًا أمامهم أنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبدالناصر، والقوى المعادية لحركة القومية العربية تحاول تصويرها دائمًا بأنها إمبراطورية لعبدالناصر، وليس ذلك صحيحًا لأن أمل الوحدة العربية بدأ قبل جمال عبدالناصر، وسوف يبقى بعد جمال عبدالناصر".
وبانتهاء شهر يونيو، انتهت قصة النكسة لتبدأ مرجلة جديدة يوم أول يوليو 1967، حيث قَدِمت قوة إسرائيلية شمالًا من مدينة القنطرة شرق الواقعة شرق قناة السويس لاحتلال مدينة بور فؤاد، تصدى لهم أبطال قواتنا المسلحة وواجهوا القوات المعتدية، ودارت معركة غير متكافئة بين قوة مصرية محدودة من قوات الصاعقة المصرية عددها 30 مقاتلًا من قوة كتيبة صاعقة بقيادة الرائد سيد الشرقاوي، الذي طلب من قائد سرية الصاعقة الاستعداد لمواجهة القوات الإسرائيلية المتقدمة، وبالفعل تقدمت القوة الإسرائيلية المكونة من سرية دبابات مدعمة بقوة مشاة ميكانيكية في عربات نصف جنزير، وقامت بالهجوم على قوة الصاعقة التي تشبثت بمواقعها بصلابة وأمكنها تدمير القوة الإسرائيلية بالكامل، فعاودت إسرائيل هجومها مرة أخرى، إلا أنها فشلت في اقتحام الموقع، وظلت بور فؤاد الجزء الوحيد من سيناء الذي لم تقترب منه إسرائيل، وكانت هذه المعركة، هي معركة رأس العش، الأولى في مرحلة الصمود التي أثبت فيها المقاتل المصري برغم الهزيمة والمرارة أنه لم يفقد إرادة القتال.