صديق المُحقق.. قصة الدبلوماسي الإسرائيلي "زئيف أفني" الذي عمل لصالح السوفيت
في منتصف الثمانينيات، تم إرسال رسالة غير عادية من إسرائيل إلى موسكو، كان المُرسل هو عالم النفس الإسرائيلي "زئيف أفني"، والمتلقي كان الزعيم السوفيتي آنذاك ميخائيل جورباتشوف.
"أفني" كان دبلوماسي سابق، نقل معلومات سرية إلى السوفييت في الخمسينيات، طالب بدفع أجر بأثر رجعي مقابل العمل الاستخباراتي الذي قام به مجانًا قبل ثلاثة عقود، التي دفع ثمنها سبع سنين في سجون إسرائيل.
لم يتلق "أفني" ردًا على طلبه - وربما لم يحصل على أي مدفوعات أيضًا- ولكن كان هناك تفاصيل مذهلة أخرى في هذه الحكاية الغريبة، تتعلق بالصداقة بين "أفني" والمحقق الخاص الذي تولى استجوابه يهودا براغ. تضمن كتاب السيرة الذاتية لأفني، "قضية بجماليون" (الاسم الذي أطلق على عملية التجسس التي قام بها)، فصلاً كتبه براغ بنفسه، والذي نص على أن "هذا الجاسوس كان رجل شريف حتى النهاية".
لم يعد بطلا القضية- الجاسوس ومحققه - على قيد الحياة، ومع ذلك، من خلال أبناءهما مايكل أفني وديفيد براغ، والمقربين من عائلة أفني، تم كشف قصة صداقتهم، وخلفيتها، الحرب الباردة، والمعارك الاستخباراتية التي غالبا ما تبقى في الظل، حسب تحقيق لصحيفة يديعوت أحرونوت نُشر مؤخراً.
الغريب الذي أراد أن يكون جاسوساً
ولد "زئيف أفني" عام 1921 في ريجا، لاتفيا، لعائلة يهودية شيوعية ألغت هويتها الدينية والوطنية. عندما كان في الحادية والعشرين من عمره ، في خضم الحرب العالمية الثانية وأثناء وجوده في سويسرا المحايدة، التقى بكارل فيبرل، الكولونيل التشيكي الذي كان يعمل لدى جهاز استخبارات الجيش الأحمر، فجنده كعميل نائم في شبكة التجسس الخاصة به.
بعد سنوات قليلة، تزوج أفني من إديث، وهاجر الاثنان إلى إسرائيل عام 1948 وعاشا في كيبوتس هازوريا، حيث ولدت ابنتهما. بعد أن ساءت علاقتهما وانفصلا، عاد أفني إلى سويسرا، وانضم إلى السلك الدبلوماسي الإسرائيلي. في عام 1952 تزوج مرة أخرى وانتقل للعمل كدبلوماسي في بلجيكا. هناك بدأ عملياً العمل كجاسوس سوفيتي في السلك الدبلوماسي الإسرائيلي.
قال "ديفيد" ابن المُحقق" يهودا براغ" لموقع "أحرونوت": "أخبرني والدي أن "أفني" نشأ كغريب، فتى يهودي لم يكن لديه إنتماء لأي مكان، ولكي يشعر بأنه ذو أهمية أصبح جاسوسا. نريد جميعًا أن نكون شخصًا ما أو شيئًا ما على هذا الكوكب. لقد حاول أن يتم قبوله في وكالة المخابرات المركزية ووكالات استخبارات أخرى، حتى نجح أخيرًا مع السوفييت.. عمل من أجلهم المكان المناسب وفي الوقت المناسب . "
نقل "أفني" إلى أجهزة المخابرات السوفيتية بيانات عن مشتريات الأسلحة الإسرائيلية من بلجيكا، وأسرار سرية وتفاصيل عن عملاء ألمان عملوا في الخدمة الإسرائيلية في مصر، ورغم هذا لم يتلق أي أموال. كانت هذه هي الأيديولوجية الشيوعية التي نشأ فيها، فقد كان يعتبر نفسه مثاليًا.
يعترف بالحقائق ويخفي الدوافع
تم الكشف عن "أفني" كجاسوس في عام 1956، كان الموساد مهتمًا باستخدامه، في اتصالاته بأوروبا بسبب إتقانه للغات، لكنه في الوقت نفسه كانت حوله شكوك أنه عميلاً مزدوجاً، رئيس الموساد في ذلك الوقت، إسرائيل هارئيل رغم أنه لم يكن لديه دليل، دعا أفني إلى لقاء في إسرائيل ووصفه بالجاسوس.
في كتاب "The Pygmalion Affair" الذي نُشر عام 1993، كتب أفني: "حتى اليوم ، بعد حوالي 30 عامًا من الحادث، لا أستطيع أن أفهم كيف، على الرغم من شعوري بالانزعاج والكارثة الوشيكة، ذهبت إلى تل أبيب دون الاستعداد بأي وسيلة من وسائل الطوارئ ".
في البداية نفى "أفني"، ولكن لاحقًا أدرك أن عليه "الاعتراف بالحقائق وإخفاء الدافع"، كان يخفي دوافعه الشيوعية، وحاول أن يصور الأمركأنه يتجسس من أجل المال، في هذه المرحلة ظهر "يهودا براغ" في الحكاية، كان نائب رئيس الشرطة آنذاك، تم استدعاؤه لرئاسة فريق التحقيق، وكان الهدف هو جعل "أفني" يشرح دوافعه بالتفصيل، ويكشف علاقته مع الاتحاد السوفيتي الشيوعي، وبالتالي وضع لائحة اتهام قاسية تسهل إدانته وإصدار الحكم عليه.
يقول ديفيد براغ: "أجرى والدي محادثات أيديولوجية طويلة معه حول الشيوعية، واجهه بخطاب الزعيم السوفيتي آنذاك نيكيتا خروتشوف في المؤتمر الشيوعي السوفيتي - حيث كشف جرائم واستبداد جوزيف ستالين الذي توفي قبل ثلاث سنوات (حصل الموساد على الخطاب وتم تسريبه إلى الغرب)".
أضاف ابن براغ: "قال والدي إن أفني لم يصدق ذلك في البداية"، كان يريد أن يقنعه أنه يخوض حرباً من أجل قيم أصحابها لم يعودوا يؤمنوا بها، في النهاية انهار واعترف". قال له أفني: "سأخبرك القصة" لا تطلب مني أن أحكي ما هي المعلومات التي نقلتها". فيما اعتراف لاحقاً بما نقله للسوفيت عندما كان بالسجن.
حكم على "أفني" بالسجن 14 عاما من قبل القاضي بنيامين هاليفي، الذي كتب عنه: "لقد ارتكب جرائم بحدة مروعة"، وأطلق سراحه بعد سبع سنوات درس خلالها علم النفس بالمراسلة. في عام 1967 بدأ التطوع في مستشفى للأمراض النفسية، وفي عام 1973 تجند قسرًا في الجيش الإسرائيلي".
يقول ابن براغ: "استمر والدي في مقابلته في السجن. في البداية لأنه أراد أن يعرف ما لم يكتشفه. ولكن بعد ذلك كان مفتونًا بصراع أفني الأيديولوجي. إنه رجل ذكي وحكيم وأقيمت علاقة وثيقة بينهما".
"في النهاية، كان أفني أحد أقرب الناس إلى أبي. كان في حفل زفافي، وبعد ذلك عندما أخبرني ابنه ميكي أنه ميت، شعرت أنني يجب أن أكون في جنازته. أن أكون عندقبر جاسوس سابق أضر بإسرائيل. إنه مثل نص خيالي. لكنه كان رجلاً بقلب كبير".
أصحح أخطاء والدي
قال ميكي ابن أفني:"تم إطلاق سراح والدي عندما كنت أبلغ العمر 7 سنوات، ومنذ ذلك الحين لم يُقال لي سوى القليل عن هذه الفترة، حتى بلغت الـ17 عاماً عندما عرفت حكاية والدي من والدتي".
يقول "ميكي": "كنت ضابطًا في ناحال (وحدة في الجيش الإسرائيلي). أنا نوع من التصحيح للأشياء الخاطئة والسيئة التي فعلها والدي، شعرت لسنوات عديدة بأنني أريد أن أنظر إلى الوراء ولا أجد أحد ورائي. أحد هواجسي هو أن أطفالي سيشعرون دائمًا أن هناك شخصًا وراءهم."
وحول علاقة والده بـ"يهودا براغ"، قال ميكي: "كان لديهم خلفية ثقافية متشابهة بيت أوروبي، مدرسة قديمة. بغض النظر عن حقيقة أنهم وجدوا أنفسهم على جانبي القضية، وجدوا أيضاً لغة مشتركة."
ويختتم ديفيد براغ: "زئيف أفني كان قصة رائعة على المستوى الوطني. إنها لمحة عن كيف يجعل التاريخ الشخصي للناس يتصرفون، في حين أن أهم شيء بالنسبة للفرد هو أن يكون ذو قيمة ومغزى".