بعيدًا عن الشأن الكُروى
نشأنا على حب كرة القدم وتعلقنا بنجومها، ومع مرور السنين صرنا أكثر تفهمًا لطبيعتها، فهى لا تعدو عن كونها مجرد لعبة أو كما تُعرفها الموسوعات «رياضة جماعية تلعب بين فريقين بكرة مكورة والهدف منها إحراز الأهداف بركل الكرة داخل المرمى».
هى هكذا لا أكثر ولا أقل، ورغم معرفتنا جميعًا بأنها لعبة إلا أننا جعلنا منها وبمرور السنين مسألة تتجاوز السياسة والوطنية والأعراف والأخلاق وربما الدين لدى كثير من المتعصبين.
لعبة تقود بعضَهم لخسارة أصدقاء العمر والتجاوز- أحيانًا- فى حق رموز وطنية، لعبة تتدنى بالمرء من علياء وقاره وقمة اتزانه ليهبط إلى أسفل سافلين فيسقط أخلاقيًا ويتجاوز لفظيًا ويختل عقليًا، وكم من الأصدقاء الذين أتابعهم وأعرفهم عن قرب وخبرت حجم رجاحة عقلهم وصدق وطنيتهم، أجدهم على النقيض تمامًا حين يتصدون للحديث فى الشأن الرياضى عامة والكروى خاصة، إذ يتحولون «خلف خلاف» كما يقول النجم عادل إمام، فهم فى هذا الشأن يخلعون عنهم وقارهم بل وعقولهم ويضعون بدلًا منها «أحذية قديمة» أعزكم الله.
سلوكيات قد يراها البعض لونًا من ألوان خفة الدم فيما يراها العقلاء فقدان عقل، فكيف لهذا المتابع أو ذاك أن يكون تشجيعه وولاؤه للمتعصبين؟ وكيف يصل به التدنى إلى حد الدفاع عن سلوك لاعب جاهل أو غضب جمهور متعصب؟ وكيف له أن يُعلى من قيمة فريق منافس - من دولة أخرى - طالما هو فى منافسة قد تنتهى بهزيمة خصمه الوطنى الذى ينغص على فريقه أيامه ويكسب منه البطولة تلو الأخرى؟ وهل نسيتم أن فوز فريق وطنى فى محفل قارى أو عالمى يعلى من راية الوطن ويفرض ما نسميه بالقوة الناعمة التى ستنعكس بالإيجاب على ناديك أيضًا؟.
ومن الذى يقول إن هزيمة فريق ما فى لعبة- مجرد لعبة- هى نوع من الإذلال؟ ثم هل يصح أن نستخدم ألفاظًا كالمذلة والاكتساح والمهانة فى سياق الرياضة التى علمونا قديمًا أنها والأخلاق صنوان ومترادفان متلازمان فكان الشعار الشهير «الرياضة أخلاق»؟.
وفى المقابل من يقول إن تشجيعك لفريق ما يعنى الفوز الدائم والسعادة على طول الخط؟ ومن يصدق أن متابعة متفرج لمباراة فى كرة القدم قد تودى به إلى نوبة قلبية حادة تُفقده حياته وتدمر مستقبل أولاده من بعده؟ ومن يصدق أن يغامر مواطن بالكاد يكسب قوت يومه من عمل يده ويرهن التوك توك الذى يعول به أسرته من أجل أن يجمع المال ليتمكن من السفر خلف فريقه فى رحلة خارج البلاد؟ ومن الذى يسمح لمسئول فى نادٍ ما بالتطاول على فريق مضيف بسبه هو وبلده دون رادع من قومية ولا وازع من دين أو أخلاق؟ وهل يجوز أن يلقى لاعب بميدالية تكريمه احتجاجًا على ملابسات - ظالمة- أحاطت بمباراة كرة ثم ينبرى إعلامى ليثنى على موقفه؟
ثم نأتى للسؤال الأهم من وجهة نظري، فهل من المنطقى أن يكون دخل لاعب الكرة هو الأعلى والأغلى بين كل موظفى الجهاز الإدارى بالدولة أيًا كانت مؤهلاتهم ودرجاتهم الوظيفية؟ وما هو المبرر لتكون برامج التلاسن الرياضى هى الأكبر مساحة والأكثر تميزًا فى توقيت عرضها على كل الشاشات فى حين أن حالنا فى الرياضة كما تعلمون؟ وإذا سلمنا بما سيقوله البعض من زيادة حصيلة الإعلانات فى هذه البرامج عن غيرها فسيكون سؤالنا التالي: ولماذا تنال كرة القدم كل هذه الحظوة وهذا الاهتمام دون سواها من الألعاب التى قد تكون لنا فيها مكانة أهم وترتيبنا فيها أعلى بين غيرنا من الأمم؟ ومن يبرر لبرامج التوك شو السياسى أن تحول توجهها لتخوض هى الأخرى فى الشأن الكروى فتظهر بعض مذيعاتها وهن يرتدين تيشيرت بلون النادى الذى تشجعه؟
فى حين أن رموز الإعلام الكبار كالخال فهمى عمر وحمدى الكنيسى وكامل البيطار وعمر بطيشة وعادل ماهر وغيرهم كانوا فى قمة الانتماء لأنديتهم ولكن بعيدًا عن الهواء، فإذا تصدوا لتقديم عمل إذاعى فهم الحياد المطلق والإنصاف فى أقصى صوره.
ثم نطرح السؤال الأهم: ألا تدركون أن فى مستوى حواركم الكروى المتدنى- الذى يديره عبر الشاشات رموز كروية غير مؤهلة للعمل الإعلامى- ما يسمح لمنافسيكم من الدول الأخرى بالتجرؤ على رموزكم والتشكيك فى إنجازاتكم؟ وما سر هذا الخواء العقلى والفراغ الفكرى الذى يجعلنا نتحدث عن مباراة كرة لأكثر من أسبوع؟ وأين المهنية حين يجعل موقع صحفى مانشيته الرئيسى ثمن تيشيرت «الشبح» الذى يرتديه صانع السعادة محمد صلاح؟
تلك سادتى مجرد أسئلة قد تبدو أسئلة فى الشأن الكروى لكننى أراها أهم وأبعد وأخطر من مجرد لعبة، لقد صار الخلط واضحًا وكبيرًا بين ما هو كروى رياضى وما هو سياسى ووطنى واقتصادى بل وإنسانى أيضًا، وهنا يجب أن ينبرى المتخصصون لوضع الخطوط الفاصلة بين الترفيهى والجاد، وأن نسعى جميعًا للحصول على إجابات على الأسئلة المطروحة على الساحة الوطنية وليس الرياضية وأن نصحح أخطاء الممارسة الرياضية وأن يُعاد النظر فى الشق الإعلامى فيها والذى أراه خطرًا يهدد السلم المجتمعى إن نحن أهملناه فحتى صفوة المجتمع يفقدون عقولهم أمام تعصبهم الكروى، فما بالكم بمن هم دونهم علمًا وثقافةً ووعيًا؟!.