خطوة جادة للعمل والسعي لإنتاج خطاب ديني منضبط
شهدت العقود الماضية انتشارًا واسعًا للأفكار المتطرفة، وسيطرت على عقول كثير من شباب المجتمعات العربية والإسلامية، بل زاد حضورها في الأوساط الشعبية من خلال استغلال عاطفة دينية جياشة لدى الشعوب العربية والإسلامية، ومن خلال تبني جماعات التشدد والإرهاب لهذه الأفكار ومحاولة التغلغل داخل المجتمعات، سعت لبناء منطلقات نظرية لهذه الأفكار، أو استغلال موروثات غير محررة أو مقبولة في التراث الإسلامي، وتخطت هذه الأفكار حيز التنظير لتدخل في إطار من تغيير نمط التدين لدى الشعوب، وارتكاب موجات من العنف والإرهاب على المستويات المحلية والإقليمية، وأدى ذلك إلى تشويه صورة الإسلام في المجتمع الغربي، وساعد على هذا التصور المشوه أقليات مسلمة كانت تصرفاتها مدعاة للتخوف والقلق وانتشار ما يسمى بــ(الإسلاموفوبيا)، تلا ذلك حالة من الفوضى في معظم دول العالم العربي، سعى خلالها المتطرفون لفرض أفكارهم بالقوة، مما أدى إلى صدام حاد جعل هؤلاء المتطرفين في حالة من الغضب الشديد نتيجة رفض أفكارهم من قبل المجتمعات العربية والإسلامية، وباعتبار أن هؤلاء المتطرفين يرون أنفسهم يمثلون الحقيقة المطلقة، وأن رفضهم هو رفض للدين، فقد شرعوا في حالة من الانتقام والحشد لأتباعهم لمواجهة من يرونهم أعداء الدين طبقًا لأفهامهم المضطربة والمتطرفة، وعاشت مصر على وجه الخصوص تجربة مريرة في هذا الصدد، فقدت فيها كثيرًا من الشهداء والأبرياء، لكنها استطاعت في سنوات قليلة التخلص من حالة الاضطراب والعنف، وصنع تجربة فريدة في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف.
في هذا الإطار يأتي مؤتمر التطرف الديني الذي يعقده مركز سلام لدراسات التطرف التابع للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، تحت رعاية السيد رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، ليفتح أفقًا جديدًا من آفاق مكافحة هذا الفكر، يسعى المركز لإبراز دور مراكز البحث العلمي، والمنصات الفكرية، في مواجهة التطرف والإرهاب، من خلال مؤتمره الأول الذي يبحث قضية التطرف الديني ـ على وجه الخصوص ـ، مناقشةً للأطروحات النظرية للفكر المتطرف، وتفكيكًا للأسس التي قام عليها هذا الفكر، ومحاولةً للوقوف على الأبعاد النفسية والفكرية والإنسانية التي أنتجت هذه الأطروحات، وتناولًا للمقولات والمفاهيم التي يتبناها تيار التشدد والعنف بالرد عليها ومواجهتها، إلى جانب ترسيخ القيم الإنسانية للسلام والتعايش والتواصل الحضاري بين مختلف المذاهب والأفكار، ومن أولويات المؤتمر إبراز دور التجربة المصرية في مكافحة التطرف، وتبادل الخبرات الدولية في مواجهة العنف والإرهاب على المستوى الفكري والثقافي؛ سعيًا إلى فتح آفاق بحثية وعلمية مع الخبراء الأكاديميين على المستوى المحلي والدولي لتعزيز التعاون والتنسيق بين كل المعنيين بدراسات التطرف.
يناقش المؤتمر معالم الفكر المتطرف من خلال استقراء منطلقات التطرف لتمييز الثابت من المتغير في عملية بناء الأسس النظرية، وتتزييف الوعي الديني والفكري من خلال هذه المنطلقات، كما يحاول إبراز دور الخطاب الديني المعاصر في إعادة بناء الوعي والمواجهة الفكرية مع هذا الخطاب العنيف والمتشدد، ويرجى من خلاله الوصول إلى فتح باب الحوار حول قضية التجديد في الخطاب الديني، وضوابط عملية التجديد، وكيفية وضع حد لحالة السيولة في الخطاب الديني، وتصدر غير المؤهلين الذين ينشرون خطاب الكراهية والجمود والتشدد، ويناقش كذلك مفاهيم سعت التنظيمات الإرهابية لتشويهها، من أبرزها مفهوم الدولة الحديثة.
يسعى المؤتمر إلى صنع حالة من المشاركة والتعاون بين كل المتخصصين في دائرة مجال مواجهة التطرف، وتبادل الخبرات سواء من خلال دراسة الإسهامات البحثية والفكرية في هذا المجال على مستوى الأبحاث العربية والإنجليزية، أو تحليل التجربة المصرية الفريدة التي يعد المركز جزءًا لا يتجزأ منها، من خلال ورش العمل التي تناقش هذه الموضوعات، وهو ما يساهم في تعزيز الدور الريادي الذي يسعى إليه مركز سلام بإعداد الدراسات والبحوث المتعلقة بالتطرف، سواء في جانب النقد أو وضع استراتيجيات المواجهة، وعقد ندوات وحلقات نقاشية يشارك فيها عدد من مراكز الأبحاث المهتمة بالتطرف حول العالم.
في إطار سعي المركز ليكون أكبر تجمع للمتخصصين في مجال مكافحة التطرف، وانعكاسًا للدور المصري الرائد في مواجهة التطرف، من المنتظر إطلاق موسوعة مرجعية مصرية تمثل رصدًا وتفكيكًا لظاهرة التطرف وأدبياتها وآلياتها في الاستقطاب المجتمعي، وإرشادًا للمؤسسات المعنية بمواجهة التطرف على المستويات الفكرية والدينية والإعلامية والثقافية.
ويطلق المؤتمر عددًا من المبادرات مثل: أكاديمية سلام المتخصصة في دراسات التطرف، بالتعاون مع الخبراء المختصين، وتطبيق منارات لمواجهة المتطرفين على مستوى البرامج الرقمية، بتتبع عمليات الترويج الإلكترونية، وبناء نموذج للمواجهة الرقمية مع هذه الأفكار، وإتاحة ذاكرة أرشيفية لكل إصدارات التنظيمات المتطرفة، كمرجع للتوثيق يسهل مكافحة التطرف، ويساعد المراكز المعنية في هذا الشأن بهذا العمل التوثيقي، كما ينتظر إطلاق الموقع الإلكتروني لمركز سلام، كمنصة إعلامية ضخمة تضم عددًا من الإصدارات حول ظاهرة الإرهاب والتطرف، وبناء حلقة اتصال مع المجتمع الغربي من خلال إتاحة عدد من اللغات على موقع المركز.
يتوقع أن يكون المؤتمر خطوة جادة نحو مزيد من العمل والسعي لإنتاج خطاب ديني منضبط، يمثل الإسلام بشكل حقيقي، ويعيد تشكيل صورة مشرقة بديلة عن تلك التي أنتجتها الأفكار المنحرفة،خصوصًا على المستوى الدولي،وتوسيع مشاريع التحول الرقمي لدى المؤسسات الدينية والإفتائية لمواكبة العصر، وبناء استراتيجية جادة في مواجهة عبث الفكر المتطرف على مستوى التعليم والنشئ، وتنقية المؤسسات من الكوادر ذات الميول العنيفة والمتطرفة،, ونشر ثقافية دينية أصيلة تقضي على خطاب الكراهية والعنف، وتمثل تلك الخطوات المأمولة مواجهة حقيقية للتطرف الديني على كل المستويات، وإحياءً لمفاهيم التعايش والسلام.