الرواية.. والوحدة الوطنية
أول مرة سمعت هذا التعبير كانت من الكاتب المعروف رءوف مسعد، والواقع أن رءوف مسعد كاتب مسرحي وصحفي وروائي، مصري متحقق، ولد في السودان لوالدين قبطيين مصريين، وانتقل إلى مصر في سن المراهقة وعاش في بلدان مختلفة.. نشأ في جيل الستينيات مواكبًا لجمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم، وكتب روائع من عيون الأدب الروائي المصري المتميز: «بيضة النعامة، وزهرة الصمت، ومزاج التماسيح، وغواية الوصال»، وإن كنت أفضل «مزاج التماسيح» و«بيضة النعامة» على كل كتاباته.
من مميزات كتابات رءوف مسعد أنه كاتب مصري يجيد التعبير عن مصريته، تشعر وأنت تقرأ له أنك تتجول في قرى وحارات مصرية، وكنائس قديمة، وتعيش مع شخصيات مألوفة لديك، مثله مثل صنع الله إبراهيم.. وكما سيطرت فكرة السجن على صنع إبراهيم، وكما هيمنت العمارة العربية والتراث الفاطمي والمملوكي على جمال الغيطاني، سيطر هاجس الديانة القبطية والحياة بعيدًا عن مصر على تفكير وخيال رءوف مسعد.. ربما كان رءوف مسعد يقصد الرواية القبطية، ولكنه فضل هذا التعبير حتى يتجنب النقد.
من المعروف أن هناك كتابًا مصريين كتبوا عن الأقباط، فقد كتبت سلوى بكر عن شخصية القبطي البشموري، وتعمقت وبحثت وكتبت عملًا أدبيًا رائعًا لا يمكن أن يكتبه قبطي، كما كتب نعيم صبري رواية «شبرا»، وكتب إدوار الخراط «ترابها زعفران» ولم يميزه أحد بأنه قبطي، كما كتب يوسف القعيد روايتي «قسمة الغرماء» و«قطار الصعيد».
وكتب إبراهيم عبدالمجيد في رائعته «لا أحد ينام في الإسكندرية» عن العلاقة بين المقدس دميان والشيخ مجد الدين، كما كتب الروائي الكبير صنع الله إبراهيم عن بعض الشخصيات القبطية في روايته «شرف»، عن شخصية الصيدلي رمزي بطرس، المتورط في الفساد لأنه يرفض الانصياع لقوانينه ويتمرد على مساراته، يجمع بين الروح إلى سارية التقدمية والانتماء الرأسمالي.. وكتب الروائي يوسف وهيب رواية "تغريبة القبطي الأخير"، وحاول فيها الكتابة عن المسكوت عنه من الأسرار القبطية التي يتداولونها فيما بينهم، والتي لا يتناولها أحد علنًا.
أيضًا كتب عثمان مكاوي رواية «عقاب الرب»، تناول فيها استهداف الأقباط من قبل الجماعات الإسلامية في الصعيد، كما كتب عن العلاقات بين الأقباط في محيط الأسرة الواحدة، وعلاقتهم بأهالي البلد الذي يعيشون فيه.
وفي كل تلك الكتابات تتجلى فيها العائلة القبطية متشابهة مع العائلات المصرية الأخرى في الأحلام البسيطة والأزمات المالية المشتركة، وحتى أوقات المصيف والضحكات الصافية للرجال مسيحيين ومسلمين في المقاهي وعلى مكاتب الوظيفة
صحيح أن بعض الكتاب المسلمين تجاوزوا في تلك الناحية، كما كتب يوسف زيدان في روايته عزازيل التي أثارت ردود فعل عنيفة، لأنها تخدش الصورة المثالية التي يسعى الأقباط لتكريسها.
بل وقال بعضهم إن الرواية استمدت شهرتها من مهاجمتها التقاليد القبطية، وتحريض البطريرك على قتل هيباتيا، بل وقال البعض إنها منقولة.
بعض الكتاب، سواء كانوا مسلمين أو أقباطًا يضعون أمام أعينهم فكرة الترجمة، أو السعي لجائزة عربية قد تستهويهم الكتابة عن الأقليات، كما فازت عزازيل بجائزة البوكر وترجمت إلى لغات أخرى.
في كل تلك الأعمال لا يمكن تمييز ديانة الكاتب، إلا من خلال اسمه فقط، بينما لم يفصح أي عمل روائي عن ديانة صاحبة، مهما بلغت دقته وحرصه.
ما نريد أن نقوله إن قارئ العمل لا يعنيه كون الكاتب قبطيًا أو مسلمًا بقدر ما يعنيه العمل ذاته. الروائيون المسيحيون لا يمكن تمييز أعمالهم عن الروائيين المسلمين، إنها صنعة الكتابة، لأجل هذا لم تصمد فكرة الكاتب المسلم أو الكاتب المسيحي أمام النقد، لأن فكرة الرواية تقوم على فعل إنساني كامل، الشق الديني فيه نادر جًدا قرأنا لخيري شلبي ومجيد طوبيا ورءوف مسعد أيضًا، حاول رءوف مسعد أن يدخل في تفاصيل روايته بعض الشخصيات الدينية القبطية، وتعرض لتفاصيل شيقة لا يعرفها المسلمون، ولكنها لم تكن شخصيات رئيسية وكانت باهتة، الشخصية الدينية عنده دائمًا مخطئة، ويجعلها في موضع ازدراء، وهذا ليس في طبيعته، ويعاند تفكيره ذا المنطق اليساري الذي يستبعد الديني من البشرية ويجعلها إنسانًا مجردًا بعيدًا عن الأديان .
إدوار الخراط مثلًا، حاول أن يداعب نفس الفكرة في راما والتنين، ولكنه أحسن التعبير عن الجنس ولم يحسن التعبير عن الجانب العقائدي في الجنس، لأن الجنس حالة إنسانية مجردة وليست عقيدة كما الحب تمامًا، في كتابات إدوار الخراط نلمح تفكيرًا كهنوتيًا، ويتكئ على أشخاص كهنوتية وقبطية، وهو ناتج عن معاشرته لهم، ولكنة في كل الأحوال، لو وضع على شخصياته القبطية أسماء أخري مسلمة، لما تغير الأمر، وسارت رواياته على نفس النهج دون أن نفكر في ديانات أبطاله.
في مصر هَمٌّ مشترك بين المسيحيين والمسلمين يصعب فصله، هَمُّ المعاناة من السلطة وهاجس الفقر، وهاجس ضيق ذات اليد، وهاجس الحرية، وهي هواجس تشارك فيها الكتاب المسلمون والمسيحيون ولم تلفت اهتمامات النقاد.
يري بعض النقاد أن الكاتب القبطي يحجم عن تناول تلك الموضوعات التي تدور بين المسلمين والأقباط، حتى لا يتم تصنيفه بشكل طائفي، وبسبب تخوفهم من ردة الفعل السلبية التي قد تلاحقهم، خاصة من الكنيسة ومن المجتمع القبطي. فشعور الأقباط بالاضطهاد جعلهم في حالة دفاع فوري وانفعالي مستمر لتحسين صورتهم وتجسيد صورة مثالية".