كيف كانت الموسيقى والغناء فى حياة «عباس العقاد» من طفولته إلى مماته؟
بعيدًا عن معاركه الفكرية والسياسية مع عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين والرافعي، وأمير الشعراء أحمد شوقى، وفى ساحة مجلس النواب المصرى، وبعيدًا أيضًا عن كونه أضاف إلى المكتبة المصرية والعربية أكثر من مائة كتاب فى مختلف مجالات الفلسفة والفكر؛ إلا أن علاقته بالموسيقى والغناء سواء مستمعًا أو كاتبًا للأشعار التى تغنت فى عدد من الأفلام السينمائية تبقى منطقة الظل فى حياة هذا العملاق صاحب «العبقريات» أحد رواد الحركة الثقافية والفكرية فى عشرينيات القرن الماضى؛ وهو ما يتزامن مع مؤتمر وزارة الثقافة المصرية الذى تنطلق فعالياته صباح غد الأحد ولمدة يومين فى هذا المحور الخاص بالثورة الثقافية والفكرية فى عشرينيات القرن الماضى.
أعلن الشاعر ورئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة الأسبق سعد عبدالرحمن عبر حسابه بموقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك»، عن انتهائه من وضع صفحات كتابه «الموسيقى والغناء فى حياة العقاد وفكره»، والذى يقع فيما يقرب من 270 صفحة، ومن المقرر أن يدفع به إلى إحدى دور النشر قريبًا.
الموسيقى والغناء فى حياة العقاد.. كيف كانت؟
فى مقدمة كتاب سعد عبدالرحمن، أشار إلى أن المفكر العلامة عباس محمود العقاد دلف من بوابة الأدب إلى كثير من مجالات المعرفة والثقافة، فلم يقتصر اهتمامه على الأدب واللغة والفلسفة والتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع والتصوف وتراجم العباقرة والنابغين فقط، بل تجاوزها إلى المشاركة فى الحياة السياسية وتحرير الصحف، وكان للعقاد اهتمام واسع المدى بالفنون الجميلة التى لم يكن يراها من ضروريات الحياة الإنسانية فقط «بل ضرورية جدًا» بحسب تعبيره، وكانت له عناية خاصة بالفنون التشكيلية (التصوير والنحت على وجه الخصوص) وتذوق الموسيقى والغناء، ولكنَّ كل من كتبوا عن العقاد اجتذبتهم حين تصدوا للكتابة عنه جوانب هى الأبرز فى عالمه الأدبى والفكرى وفى حياته، فكتبوا عنه شاعرًا وناقدًا ومؤرخًا وفيلسوفًا (أو متفلسفًا) وزعيمًا سياسيًا وكتبوا عن معاركه الفكرية والأدبية والسياسية مع أعلام عصره وعن بعض جوانب من حياته الخاصة لا سيما العاطفية منها، ولكن يظل العقاد أشبه ما يكون بجبل الجليد لا يبدو منه فوق سطح البحر إلا جزءٌ صغيرٌ، بينما يبقى الجزء الأكبر من الجبل غاطسًا فى الأعماق لا يُرى، وينتظر من لديه القدرة على الغوص ليكشف عما يتيسر له الكشف عنه، فحتى الآن لم يكتب أحد مثلًا عن العقاد لغويًا أو العقاد برلمانيًّا أو العقاد مجمعيًّا أو العقاد مترجمًا، وله فى تلك الجوانب إسهامات شتى لا تنكر، وإذا كانت عنايته بـ«الفنون التشكيلية» لم تحظ إلا بانتباه قليل برغم أن عنايته بها كانت مبكرة، وقد كتب عنها وعن بعض رموزها عشرات المقالات، فإن عنايته بالموسيقى والغناء من الجوانب التى لم يلتفت إليها أحد من الكتاب أو الدارسين حتى الآن، وهو ما سنحاول أن نسلط بعضًا من الضوء عليه، وهذا قصارى ما نطمح إليه.
الموسيقى والغناء فى طفولة «العقاد».. البداية من الروايات الغنائية للفرق المسرحية
سعد عبدالرحمن، كشف عن عناية العقاد بالموسيقى والغناء التي تجلت فى مظاهر شتى منذ أن كان طفلًا يعيش فى كنف أسرته بمدينة أسوان، وكيف توثقت تلك العلاقة بعد ذلك حين عمل قريبًا من القاهرة، وراح يتردد بشكل منتظم على المسارح ودور السينما حيث كان يستمتع بمشاهدة الروايات الغنائية للفرق المسرحية الشهيرة والأفلام التى تتخللها الموسيقى أو يدور موضوعها حول أحد عباقرة الموسيقى ونوابغها، ثم حين سكن القاهرة واقتنى حاكيًا (فونوغرافًا) بمنزله يتيح له وقتما يشاء سماع الموسيقى والغناء فى قوالبهما الشرقية والغربية، ولم يكن اهتمام العقاد بالموسيقى والغناء محصورًا فى مجرد السماع والاستمتاع فحسب بل تعداهما إلى القراءة الواسعة عنهما وعن العباقرة والنابغين فيهما وتتبع مراحل تطورهما والتنويه بأهميتهما فى حياة الفرد والجماعة وعن الكثير من قضاياهما.
وتابع: وللعقاد رأى فى الموسيقى والغناء يعد فرعًا من نظريته التى تربط بين «الحرية والجمال» فى الحياة وفى الفنون، ويجزم فيها أنهما عنصران متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، حيث يقول: «إن الحرية فى رأيى هى العنصر الذى لا يخلو منه جمال فى عالم الحياة أو فى عالم الفنون»، وأنه «مهما نبحث عن مزية تتفاضل بها مواكب الجمال فى الحياة لا نجد هنالك إلا مزية حرية الاختيار التى يفضل بها الإنسان الكامل من دونه من المرجوحين فى صفات النفوس وسمت الأجسام» وأنه «لا حرية حيث لا يحب الجمال».
واستطرد قائلًا: والعقاد لا يرى «مانعًا من القول فى غير ما تحفظ ولا استثناء بأن الجمال فى الفن والطبيعة معنوى لا شكلى، وأن الأشكال لا تعجبنا وتجمل فى نفوسنا إلا لمعنى تحركه أو معنى توحى إليه، لا فرق فى ذلك بين أشكال الوجوه الآدمية والأعضاء الحية، وبين ما دون ذلك من الصور التى لا تخفى فيها معانى الحسن أو تبعد الشقة بينها وبين ما ترمى إليه».
وتابع: والجوهر المشترك بين جميع المعانى الفنية هو تغليب الفكرة على المادة، أو سيطرة المعانى على الأشكال، فالرخام مادة تتغلب عليه فكرة الفنان، فإذا هو مثال لمعنى من معانى الجمال، والكلمات مادة مبعثرة تتغلب عليها فكرة الشاعر أو الكاتب فإذا هى وحى ناطق بأحاسيسه ومعانيه، والجسم مادة تتغلب عليه الحركة الموزونة فإذا هو رقص يريك كيف تساق الأعضاء فى مطاوعة الألحان والأصداء، وكيف تخضع الأجسام لإملاء النظام والرواء.
كل فن هو فكرة غالبة على مادة، أو معنى غالب على شكل، أو فوضى ممثلة فى صورة جميلة.
ويرتقى الفن فى سلم الجمال وترتفع قيمته وتسمو من وجهة نظر العقاد بمقدار حصته من الحرية، إذ يقول: «كلما ازداد نصيب الفنون من الحرية سمت طبقتها فى الجمال والنفاسة، وكلما قل نصيبها من الحرية ابتعدت عن طبقة الفن الجميل»، ولكنه يستدرك بأن «الحرية ليست بالفوضى التى لا يمازجها نظام ولا يحيط بها قانون»، وبناءً على ذلك فإن الصوت الجميل الذى نطرب له عند العقاد هو الصوت الذى يمكن أن نصفه بأنه الصوت الحر و«السالك الذى لا ينحاش» كما يقول المغنون أى الذى تحس وأنت تسمعه أنه خارج من حنجرة لا عقلة فيها ومن صدر لا حرج فيه.
كتب عن بيتهوفن وشوبان وفيردى والشيخ حجازى ودرويش
سعد عبدالرحمن، رصد عددًا من المقالات لـ«العقاد» عن أعلامهما، فكتب مثلًا عن بيتهوفن وفيردى وشتراوس وشوبان، وكتب أيضًا عن الشيخ سلامة حجازى وصالح عبدالحى ومحمد حسن الشجاعى من أعلام الموسيقى والغناء العربي، ومما هو جدير بالذكر أن الشيخ السيد درويش قد حظى من العقاد باهتمام خاص، فقد كتب عنه عدة مرات نثرًا وشعرًا تقديرًا لنبوغه ودوره فى تطوير الموسيقى والغناء ونقله الموسيقى العربية خطوات من مرحلة الاعتماد على الكلام فى التعبير إلى مرحلة الاستقلال والتعبير بلغتها الخاصة.
وأضاف: ومن مظاهر عناية العقاد بالموسيقى والغناء كثرة نصوصه الشعرية من قصائد وأناشيد ومقطوعات تدور حول تجليات الموسيقى والغناء فى الطبيعة، فالموسيقى لا تتجسد فى أصوات الآلات الموسيقية والمعازف فقط، بل هى فى الحقيقة عنصر أصيل من عناصر الطبيعة، والإنسان يحاكى الطبيعة، فقد اخترع الآلات الموسيقية والمعازف من وحى تغريدات الطيور وإيقاعات الكثير من المظاهر الطبيعية المختلفة التى باشرها سمعه فى أصوات قصف الرعود وعزيف الرياح وحفيف أوراق الشجر وخرير المياه والانهيارات الصخرية والجليدية وغيرها، لا جرم أن يخصص العقاد ديوانًا شعريًّا لطائر مغرد من طيور البيئة المصرية وعنونه باسمه هو «هدية الكروان»، ولا جرم أيضًا أن تمتد عناية العقاد بالموسيقى لتشمل تجلياتها فى اللغة العربية التى لقبها بـ«اللغة الشاعرة»، وقدم لنا فى كتاب بديع له بهذا العنوان الكثير من البراهين والأدلة على أنها لغة موسيقية وأن السمة الموسيقية تتجسد بوضوح فى أصوات حروفها، كما تتجسد فى صيغ مفرداتها كما تتجسد فى أوزان شعرها وقوافيه.
أشعار «العقاد» التى تحولت لأغنيات فى الأفلام
وأشار إلى أن بعض أشعار العقاد وجدت طريقها إلى ساحة الموسيقى والغناء فكتب مثلًا عام 1934 أغنيات فيلم «شبح الماضي» بطولة أميرة الطرب نادرة أمين، كما لحن موسيقيون كبار مثل السنباطى وفريد غصن وإسماعيل عبدالمعين ومحمد جمعة خان وعبدالحميد توفيق زكى عدة نصوص من شعره وغنوها بأنفسهم أو غناها بعض المطربين والمطربات.