مظفر النواب.. الكلمة التى يبقى فيها
عندما رحل الشاعر العربى الكبير مظفر النواب قلت لنفسى إن الكثيرين لم يقرأوا على الأغلب معظم قصائد مظفر النواب، لكنهم سوف يختصرونه فى جملة دالة يعرفها الجميع هى: «القدس عروس عروبتكم»، الأكثر انتشارًا والأكثر تعبيرًا عن قضية عامة.
وسوف يقرأ البعض أو لا يقرأ كل أو بعض ما كتبه أمل دنقل، لكن الذاكرة الثقافية الجمعية سوف تستبقيه فى أبيات محددة: «لا تصالح ولو قلدوك الذهب»، كما سيحيا محمود درويش فى إطار أبيات مثل: «سجل أنا عربى»، أو «وطنى ليس حقيبة».
وقد لا تكون تلك الأبيات التى تختصر الذاكرة فيها رحلة شاعر هى الأبيات الأعمق، أو الأعظم فى إنجازه الشعرى، لكنها تظل الأقرب إلى الاحتجاج الإنسانى الذى يمد الناس بالأمل فى ظرف تاريخى معين، وقد ظهر شعر بل أدب الاحتجاج السياسى والاجتماعى منذ زمن بعيد على أرضية ما عُرف بشعر الهجاء، ومن أشهر نماذجه وأشدها حدة قصائد المتنبى فى كافور الإخشيدى الذى حكم مصر ثلاثة وعشرين عامًا.
وقال فيه المتنبى: «لا تشتر العبد إلا والعصا معه.. إن العبيد لأنجاس مناكيد.. جوعان يأكل من زادى ويمسكنى.. لكى يقال عظيم القدر مقصود».
أما قصيدة المتنبى الأفظع فى الشعر العربى كافة فكانت عن «ضبة بن يزيد»، فانتقم له خاله «فاتك الأسدى» من المتنبى وقتله وهو فى طريقه إلى بغداد! ومع بقاء الهجاء بأشكال ودرجات مختلفة، إلا أن الشعر تحول إلى الاحتجاج السياسى والاجتماعى، ليتقاطع مع قضايا أكبر وأعم، مثلما قرأنا لبيرم التونسى وهو يهاجم الملك فؤاد: «ولما عدمنا بمصر الملوك.. جابوك الإنجليز يا فؤاد قعدوك.. تمثل على العرش دور الملوك».
ومفهوم أن تتشبث الذاكرة الجمعية بقصائد أو حتى بأبيات من القصائد التى تشد أزرها فى ظل معاركها، وإن كانت تلك القصائد لا تجسد العالم الفنى والإنسانى الكامل لهذا الشاعر أو ذاك.
ولا شك أن محمود درويش أكبر وأغنى وأعمق من مجرد قصائده عن الوطن، وأمل دنقل أيضًا، ومظفر النواب، فلكل من أولئك عالمه الشعرى والإنسانى الرحب، لكن الناس يمدون أياديهم إلى أكثر القصائد حدة وأقدرها على شحن وجدان الجماعة دفاعًا عن المصير.
لذلك يبقى مظفر النواب فى الذاكرة الجمعية ألمع ما يكون بكلمته: «القدس عروس عروبتكم»، ويبقى فيها حتى تختلف موازين القوى، وتعود كما قال أمل دنقل: «النجوم لميقاتها.. والذرات لرمالها»، وحينئذ سيفتش الجميع عن كل ما كتبه مظفر النواب، وكل ما حاول فيه أن يغطى بنور القضايا العامة أفق الإنسانية كلها.
ويذكر فى سياق الأدب التحريضى أن رواية مكسيم جوركى الشهيرة «الأم» صدرت بعد فشل الثورة الروسية الأولى فى عام ١٩٠٥، وفى حينه سادت مشاعر الإحباط واليأس فى الشعب الروسى، وجاءت الرواية التى عرى فيها جوركى مساوئ نظام القيصر من خلال «الأم» التى تتطور شخصيتها إلى أن تصبح مكافحة ورمزًا للوطن.
وفى حينه أشاع عدد من النقاد أن الرواية «قد تكون ضعيفة لكنها كانت مطلوبة جدًا».
وحين تختصر الذاكرة مظفر النواب أو محمود درويش أو أمل دنقل فى أبيات محددة، فذلك لأن تلك الأبيات «مطلوبة جدًا» إلى أن يشرق وقت آخر يتأمل فيه الجميع القصائد مجتمعة كلها بعمقها، وإنسانيتها، وانفتاحها على الهموم والآمال، أينما كانت.
وحينئذ يخرج مظفر النواب من قمقم الكلمة التى يحيا فيها، ويطل علينا من الفضاء الرحب.