المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما: أطراف من اليسار واليمين أسهموا في تشويه الليبرالية
في عام 1992، نشر الفيلسوف والمفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، الذي اعتبر فيه أن الصراع على الأيديولوجيات قد انتهى باستقرار العالم على الديمقراطية الليبرالية، باعتبارها قمة التطور الأيديولوجي، بعد الحرب الباردة وسقوط جدار برلين.
جملة من الأحداث على مدار العقود الماضية وضعت "الليبرالية" محل استشكال في الأدبيات الفكرية. غير أن فوكوياما عاد أخيرًا بكتاب جديد عنوانه "الليبرالية وعوامل السخط عليها" مدافعًا مرة أخرى عن أهمية الليبرالية ومجادلًا في أسباب الاستياء منها.
اعتبرت صحيفة "النيويورك تايمز" في مقال نشرته حول الكتاب أن فوكوياما كان أكثر حذرًا في كتابه الجديد خلافًا لغيره من الكتاب الليبراليين المشاكسين، إذ يشدد على أن القيم الليبرالية لا يمكن أن تدوم إلا من خلال الاعتدال وقبول الحدود، كما أنه لا ينكر أن الليبرالية دُفعت إلى التطرف النيوليبرالي في عالم الاقتصاد والتطرف الهوياتي في عالم السياسة.
يتطرق الحوار الذي أجراه موقع "THE HUB" مع المفكر الأمريكي فوكوياما إلى مناقشة بعض ما أثاره في كتابه الجديد، بما في ذلك مناقشة تاريخ الليبرالية وأسباب الشعور بخيبة أمل كبيرة تجاهها هذه الأيام، وما قد تعنيه الحرب الروسية الأوكرانية في هذا السياق.
- في كتاب "الليبرالية وعوامل السخط عليها" تجادل بأن الليبرالية تواجه تهديدات من طرفي الطيف السياسي. كيف يمكن أن يكون كل من جون رولز وميلتون فريدمان رمزين لهذا التهديد؟ ما القاسم المشترك بينهما؟
ثمة إجابة معقدة بعض الشيء لهذا السؤال. أعتقد بأنهما رمزان لنوع معين من الليبرالية على كل من اليسار واليمين، لكنهم في الواقع يمثلون تشويهًا أو تحريفًا لليبرالية بما قد يفسر عدم رضا الناس عنها في الوقت الحالي.
فيما يخُص ميلتون فريدمان، ارتبطت الليبرالية لعدة قرون بالأسواق الحرة والنمو الاقتصادي، يدعم الليبراليون حقوق الملكية وحرية الاستثمار، وهم مرتبطون ارتباطًا وثيقًا بكل التطور الاقتصادي الذي جعل العالم الحديث غنيًا ومزدهرًا.
يبدأ ميلتون فريدمان من تلك المقدمات الليبرالية، لكنه كان حقًا تجسيدًا لشيء يُعرف الآن بالنيوليبرالية، مدرسة جامعة شيكاغو التي، بمعنى ما، تعبد الأسواق الحرة، وتُحوّلها من ملاحظة تجريبية إلى نوع من الدين، فضلًا عن تشويه سمعة الدولة باعتبارها عقبة أمام النمو والكفاءة. وقد أدى هذا التغيير في الأفكار إلى تحول رأسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية في وقت مبكر إلى هذه العولمة الفائقة التي رأيناها، ما نجم عنه المزيد من عدم المساواة، كما أن تحرير القطاع المالي أدى إلى المزيد من عدم الاستقرار، فصار الكثير من الناس العاديين خارج منازلهم لأنهم لم يعودوا قادرين على تحمل قروضهم العقارية وما شابه ذلك.
من ناحية أخرى، يتخذ جون رولز مسارًا مختلفًا يتعلق بالاختيار الشخصي. يريد الليبراليون حماية الاستقلال الفردي؛ أن يكون بمقدرتهم اتخاذ الخيارات الأساسية في الحياة حول مكان العيش ونوع العمل ومن سنتزوج وما الذي سنصدقه، وما شابه. لكن مع مرور الوقت، وتحت تأثير رولز، أصبح فعل الاختيار أكثر أهمية مما يقع الاختيار عليه. يعتبر رولز مبدأ عدم التدخل في خيارات الآخرين أكثر أهمية من الخيار الفعلي الذي تقوم به، وأدى ذلك إلى نسيان الغاية من رغبة الناس في العيش بمجتمعات ليبرالية.
تخبر ليبرالية رولز إنه في الواقع فعل الاختيار المجرد هو المهم، وليس كونك تختار بحكمة أو تتصرف بحصافة. لذا، لا أعتقد بأن هذه ليبرالية حقيقية وإنما، إلى حد ما، تشويه لبعض تلك الأفكار الليبرالية الكلاسيكية.
- اسمح لي أن أتطرق إلى عنوان الكتاب الذي يشير إلى السخط وخيبة الأمل من الليبرالية.. إلى أي مدى يمكن اعتبار فشل الليبرالية في الوفاء بوعودها سببًا لذلك في مقابل حقيقة أنها صارت رتيبة بصورة ما. أفكر، على سبيل المثال، في الشباب الباحثين عن حافز فكري والأخلاقي. أتساءل عما يسمى حركة إذكاء الوعي بحقوق المساواة والأقليات من ناحية، والمحافظة ما بعد الليبرالية، من ناحية أخرى باعتبارهما تعبيرًا بصورة ما عن الملل الفكري.. ما رأيك في هذه المسألة؟
أعتقد بأن كلتا الظاهرتين اللتين أشرت إليهما صحيحتان. لم يحقق أي مجتمع ليبرالي بشكل كامل وعده بالمعاملة المتساوية لجميع الناس بموجب القانون، أليس كذلك؟ نرى هذا في الولايات المتحدة حيث يُسجن الأمريكيون الأفارقة بمعدلات أعلى بكثير من البيض وما إلى ذلك. هذا فشل في الوفاء بالوعد.
من ناحية أخرى، أعتقد أن عدم الرضا عن الليبرالية له علاقة بحقيقة أن الليبرالية تخفض عامدة من اعتبارات سياسية، تقول: لن نركز على مصلحة مشتركة محددة بوضوح، لن نتعاون جميعًا. يجب على الجميع القيام بأمورهم الخاصة واتخاذ القرارات بأنفسهم بينما يريد الكثير من الناس أكثر من ذلك.
ومن ثم، فهذه في الواقع شكوى على كل من اليمين واليسار. أعني، يود اليمين أن يقول “نحن بحاجة إلى قيم دينية مشتركة تربط بين أفراد مجتمعنا، فيما سيقول الناس من اليسار: تحتاج المجموعات المهمشة إلى إدراك ما هو مشترك بينها والنضال من أجل هذا النوع من العدالة الاجتماعية، حتى لو كان ذلك يعني انتهاك أنواع معينة أخرى من المبادئ الليبرالية”.
وأظن بأنه من السهل جدًا الشعور بالملل، بصراحة، في مجتمع ليبرالي يوفر ببساطة السلام والازدهار. يريد الناس أن يكونوا قادرين على النضال؛ لديهم هذا الجانب من شخصيتهم الذي يسعى إلى التقدير والكرامة ويثور بشدة عندما لا يعترف الآخر بنفس القوى التي يسلِّمون بها. هذا ما أظن بأنه دفع الكثير من الناس لرفض الليبرالية.
- هل هذه مشكلة خطيرة متأصلة في جذور الليبرالية؟ فمن جهة هي أفضل عقيدة لتنظيم مجتمع تعددي ولكن من ناحية أخرى، كما تقول، فشلت في تحقيق الشعور بالرضا؟ ما الذي يجب أن يحدث في السياسة أو المجتمع المدني أو بعض المناطق الأخرى من حياتنا الجماعية لسد الفجوة التي لم تسدها الليبرالية؟
من الناحية المثالية، هذه الأنواع من الطاقات؛ السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية، وحياة أفضل، يمكن تحقيقها بطرق مختلفة في المجتمع المدني. لذلك، كل مجتمع ليبرالي لديه طبقة كثيفة من المجموعات التي تجتمع معًا للدفاع عن قضية ما، كالتنمية في أفريقيا أو رعاية الأطفال الذين يعانون من أمراض مختلفة، وما إلى ذلك. وهذا قد يكون وسيلة مثمرة وسلمية لإشباع بعض من تلك الطاقة.
من ناحية أخرى، هذا ليس كافيًا لكثير من الناس لأنهم في الواقع يريدون نوعًا أكبر بكثير من التحول الاجتماعي. إنهم يريدون أن يروا المجتمع بأكمله ملتزمًا بنفس نمط العدالة التي هم عليها، وهم في ذلك يشبهون الأشخاص على اليمين الذين يريدون هذا الأفق الثقافي المشترك الذي يعترف به الجميع. لذا، أعتقد بأنه في فترة من الزمن يفضل الناس المجتمعات الليبرالية عندما يجربون ما هو غير ليبرالي، أليس كذلك؟
لذلك، إذا كانوا يعيشون في مجتمع مزقته الحرب، مثل أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، أو إذا كانوا يعيشون في ظل ديكتاتورية شيوعية، كما كان الحال في أوروبا الشرقية حتى سقوط جدار برلين، فسيسعدهم الهروب إلى مجتمع ليبرالي حيث يمكنهم فقط القيام بأشياءهم الخاصة. ولكن مع مرور الوقت، فهم يعتبرون ذلك أمرًا مفروغًا منه، ويقولون "نعم، لكن مع ذلك، تحتاج حياتي إلى معنى أعمق". ومن ثم، تحدث تلك الهجمات على الليبرالية. وهكذا، يصير محكومًا علينا أن نمر بحالة من الرضا عن النفس ونتذكر مرة أخرى لماذا من الأفضل العيش في مجتمع ليبرالي.
- يشي الكتاب بالاعتدال، لكن هناك مجموعة من القوى التي تعمل ضد الاعتدال في هذه الأيام، بما في ذلك بالطبع مجموعات من وسائل التواصل الاجتماعي. كيف نعود لتقدير الاعتدال في مجتمعنا؟ كيف يمكننا أن نصارع سيطرة المتطرفين على سياستنا؟
هذا سؤال صعب حقًا، لأنني أعتقد بأن الاستقطاب والتطرف مدفوعان بالعديد من القوى المختلفة. لذلك، كما أشرت، فإن وسائل التواصل الاجتماعي صارت بيئة تُوضع فيها قيمة لإهانة الناس والتلفظ بما لا يمكن قوله في محادثة متحضرة وجهًا لوجه. الجميع يُناضل ليعرف سبل التعامل مع ذلك، فالإشراف على المحتوى قد صار في أولويات جداول عمل الكثير من منصات الإنترنت الكبيرة.
مع ذلك، لدينا مشكلة كبيرة في تحديد من الذي يقرر ما هو الكلام المقبول وما هو غير مقبول، لأن الليبراليين ملتزمون بحرية التعبير وليس أكيدًا أننا نريد من الحكومة أن تضع هذه المعايير، كما أنه ليس من الواضح أيضًا أننا نريد منصات الإنترنت الكبيرة هذه أيضًا أن تقوم بذلك. لذا، لا أعرف ما هو الحل على وجه الخصوص. أعتقد بأن معظم التقنيات قد تحدت النظام السياسي في بدايتها، حتى أشياء مثل الطباعة التي أطلقت حقًا الإصلاح البروتستانتي، الذي كان مزعجًا للغاية في أوروبا، كما أطلق الراديو مسيرة موسوليني وهتلر وكان لذلك تأثير مدمر. لذلك يجب أن نمر بعملية التعلم الاجتماعي هذه لنرى كيف نتعامل مع تلك التحديات التي تفرضها هذه التكنولوجيا الجديدة.
ومع ذلك ، هناك مصادر أخرى للاستياء لا تعتمد على التكنولوجيا. فثمة تقسيم طبقي جديد ظهر في العديد من البلدان؛ في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا، حيث يوجد من ناحية مهنيون حضريون يتمتعون بمستويات تعليم جيدة، ويعيشون في مدن كبيرة، ولديهم الكثير من الاستثمارات الاقتصادية، وقيم اجتماعية متحررة للغاية، وهناك آخرون ليسوا على هذا النحو تمامًا. ويتركز معظم مراكز الاستقطاب حول هذا النوع من الانقسام الاجتماعي، والذي هو في النهاية انقسام حول مستويات التعليم. وللتعامل مع ذلك، هناك عدة أشياء.
يحتاج الجانب الاقتصادي إلى معالجة لأن الكثير من أفراد الطبقة العاملة قد تعطلت حياتهم بشدة سواء بسبب العولمة والاستعانة بمصادر خارجية أو نتيجة لوباء كوفيد. إذا كنت تعمل بيديك، فعليك الحضور للعمل، وإذا كنت تعمل أمام شاشة الكمبيوتر، فأنت على ما يرام. ولكن هناك بعد ذلك مشكلة ثقافية يوجد فيها نوع من الإحساس المتصاعد بعدم الثقة بالناس على الجانب الآخر.
يطلق علماء السياسة على هذا الاستقطاب العاطفي، إذ لا تختلف فقط حول قضايا السياسة أو التفضيلات السياسية، بل تكره الأشخاص على الجانب الآخر لأنك تعتقد بأنهم يحاولون النيل منك، أو أن هويتك تتعرض للهجوم بشكل مباشر. وهذا، على ما أعتقد، كان شيئًا يحتاج فقط إلى التعامل معه من خلال القيادة، عبر نوع من الاعتراف بأن هناك مظالم مشروعة يحملها الناس على الجانب الآخر من الانقسام. ونأمل أن يكون هذا شيئًا يمكن معالجته بالفعل في نظام سياسي ديمقراطي.
لكن يجب أن أقول، لقد فوجئت حقًا وأصبت بخيبة أمل من عدم نجاح هذه الإجراءات خلال السنوات القليلة الماضية ، وأنه ، على الأقل في الولايات المتحدة ، يبدو أننا وصلنا إلى درجة أعلى من الاستقطاب. بعد 11 سبتمبر وبعد الأزمة المالية ثم وباء كورونا، كل هذه الأشياء التي ربما تخيلت أنها ستجمعنا معًا أكثر أدت في الواقع إلى تفاقم الانقسام. لذا، فهذه طريقة طويلة للقول إنني لست متأكدًا تمامًا من الحل النهائي لذلك.
- قدمت ملاحظات مختلفة في سياق الحرب الروسية الأوكرانية. لقد جادلت، من ناحية، بأن الغزو الروسي غير المبرر لأوكرانيا والمقاومة الأوكرانية قد يمثلان لحظة تجديد الروح والحيوية في عالم الليبرالية، لكنك أشرت أيضًا إلى أن أحد الدروس المستفادة من هذا الحدث هو أنه يجب تضمين الليبرالية في شكل ما من أشكال القومية. لماذا تعتقد أن الليبرالية يجب أن ترتبط بالتحديد الجغرافي والثقافي للدولة؟
حقوق الإنسان ليست أشياء موجودة ببساطة داخل إقليم واحد، وإنما تنطبق على كل مكان في العالم، من الناحية النظرية، وهذا يقود الكثير من الليبراليين إلى القول إنهم مواطنون في العالم، وهم يهتمون كثيرًا بما يحدث للناس في بنجلاديش أو في أوغندا، كجيرانهم في مجتمع ليبرالي غني. وأعتقد أن هذا يمثل مشكلة من ناحيتين.
أعني، أولاً وقبل كل شيء، فقط بالنظر إلى الطريقة التي يتعامل بها الناس عاطفياً، هناك عدد قليل جدًا من الأشخاص الذين هم مواطنون عالميون فعلا. يهتم الجميع بالأشخاص الأقرب إليهم، والدولة هي في الحقيقة أكبر وحدة للتضامن الاجتماعي التي تثير استجابة عاطفية قوية جدًا من الوطنية والولاء وما شابه.
والمسألة الأخرى هي مسألة عملية حيث تظل الدولة هي الوحدة السياسية التي تتحكم في العنف المشروع، أليس كذلك؟ حقًا الدول القومية هي القادرة على نشر الجيوش وقوات الشرطة في نهاية المطاف، إذا كانت شرعية وأضفيت الشرعية عليها ديمقراطيًا، فهي التي تحافظ على النظام وتدافع عن المجتمع، والأهم من ذلك هي من تفرض هذه الحقوق.
الحقوق الليبرالية لا معنى لها ما لم يتم تنفيذها، وأنت بحاجة إلى دولة لفرضها. وأنت لا تريد أن تستخدم الدول بالضرورة سلطتها الخاصة لفرض الحقوق في البلدان الأخرى، لأن ذلك سيؤدي إلى عالم فوضوي للغاية. لهذا السبب أعتقد بأن استخدام القوة؛ القوة المشروعة، يجب أن يكون مقيدًا إقليميًا بالمجتمع الذي وقّع بشكل أساسي على عقد اجتماعي يتخلى فيه الناس عن حقهم في التسليح والدفاع عن أنفسهم بأي طريقة يرونها مناسبة. إنهم يتنازلون عنها لدولة تتعهد بالدفاع عنهم من خلال قوة الشرطة وما شابه. ومرة أخرى ، كل هذا يتمحور حول الدول وليس على أنواع أخرى من الكيانات.
- بينما نجري هذه المحادثة، يتوغل الروس في أوكرانيا، وإحدى الطرق التي يتعاملون بها هي استراتيجية الاضطراب المدمر واستهداف المدنيين. إلى متى يمكن أن تقف الديمقراطيات الليبرالية الغربية جانبًا وتراقب ما يحدث دون أي شكل من أشكال التدخل؟
قدمت الديمقراطيات الغربية الكثير من المساعدة لأوكرانيا عبر تزويدهم ببعض الأسلحة القوية جدًا. أعتقد بأنهم حذرين للغاية حتى هذه اللحظة لأن روسيا تمتلك أسلحة نووية. هناك الكثير من الطرق التي يمكن من خلالها التصعيد، لكن لا أحد يريد أن يتحول ذلك إلى حرب واسعة النطاق بين الناتو وروسيا. لذا، فإنهم يتوخون الحذر.
رأيي الشخصي هو أن المأزق لن يستمر لفترة أطول. أعتقد بأن الأوكرانيين قد يدفعوا الروس للخروج من المناطق التي احتلوها بعد 24 فبراير، وهذا من المرجح حدوثه في الأسابيع المقبلة، لكن هناك هذه المشكلة الأخلاقية المتمثلة في أن الأوكرانيين فقط هم من يموتون، وهم يموتون بعشرات الآلاف في معركة تحمل قضية لنا جميعًا لأن روسيا لا تهدد أوكرانيا فحسب، بل تهدد كل دولة أخرى في أوروبا، تهدد فكرة الديمقراطية ذاتها التي انتقدها بوتين وهو أحد المؤيدين الرئيسيين لبديل غير ديمقراطي. لذا، أعتقد بأن نجاحه سيكون سيئًا جدًا للجميع.
- إلى أي مدى كان المفكرون والفلاسفة الليبراليون الأوائل متناغمين مع مخاطر الليبرالية ومحايدين في قضايا أخلاقية؟ أم لم يخطر ببالهم ذلك لأنهم كانوا يكتبون في عصر ارتفع به مستوى التديُن؟
أعتقد قليلاً من الاثنين. أعني، بالتأكيد نشأ المفكرون الليبراليين الأوائل في عوالم كانت في الأساس ثيوقراطية. لقد تأسست الكنائس، وفي أوروبا كانت سلطة المسيحية حقيقة غير قابلة للشك. ولذا فإن الجدل حول التسامح الديني كان في الواقع أمرًا محفوفًا بالمخاطر.
لكني أعتقد بأنه لهذا السبب بالتحديد قدموا تلك الحجج. وُلدت الليبرالية في ختام الحروب الدينية الأوروبية عندما أمضى البروتستانت والكاثوليك ومختلف طوائف البروتستانت السنوات الـ 150 الماضية في قتل بعضهم البعض. في حرب الثلاثين عامًا في بداية القرن السابع عشر، فقدت ألمانيا ربما ثلث سكانها في هذا النوع من الصراع.
كما تعلم، لا يعامل توماس هوبز عمومًا على أنه ليبرالي، لكنه حقًا هو صاحب فكرة عالمية الحق في الحياة، وجاءت كتاباته مباشرة من تجربته في الحرب الأهلية الإنجليزية في أربعينيات القرن السادس عشر. هذه الفكرة القائلة بأن الأشخاص الذين يقاتلون من أجل هذه الغايات الدينية العليا كانوا يدمرون مجتمعهم، وأن الناس بحاجة إلى بنية مختلفة يمكنهم من خلالها تحمل بعضهم البعض والعيش معًا، لذا فإن توجيه الأنظار نحو ذلك كان نتيجة ثانوية لكثير من الصراعات العنيفة التي جعلت هذا التحول متعمدًا تمامًا.
- تحدثنا عن المدى الذي وصلت إليه الأفكار حول الأسواق في السبعينيات والثمانينيات وما بعدهما. أعتقد بأنه من العدل أن نقول إن هذه الفكرة لها صدى متزايد في مؤسسات سياسية. لكن أين أخطأت الليبرالية عندما تعلق الأمر بالمجال الثقافي؟ كيف ننتقل من كرامة الفرد إلى التطرف المتزايد الذي رأيناه في قضايا الثقافة والهوية؟
دعنا نأخذ مسألة سياسات الهوية، والتي هي المظهر الرئيسي للشكل التقدمي لما أعتقد بأنه شكل مشوه من الليبرالية. هناك نسخة واحدة من سياسات الهوية تتماشى تمامًا مع المبادئ الليبرالية، وهي وجهة نظر تقول إن لدينا هذه الهويات، على سبيل المثال، لنقل الأمريكيين الأفارقة أو النساء أو المثليين والمثليات، لكننا حرمنا من المعاملة المتساوية من خلال المجتمع الليبرالي الأوسع؛ الناس لا يحترموننا، فقد تكون هناك عقبات قانونية أمام عيشنا في أنواع الحياة المتساوية والكاملة التي تعد بها الليبرالية، ونريد ببساطة أن ندرج في ذلك التيار الأكبر. لذا، فإن هذا الشكل من سياسات الهوية هو في الحقيقة ينتمي إلى الليبرالية ويدعم أفكارها.
لكن بعض الأشكال تحولت في الواقع إلى مناهضة للليبرالية، حينما يقول البعض: "في الواقع، لأننا أعضاء في هذه المجتمعات المهمشة، فإن تجربتنا لا تتناسب مع أي شخص خارج جماعتنا، والقمع الذي شعرنا به أمر حاسم جدًا لدرجة أنه يحدد حقًا أهم سماتنا؛ لون بشرتنا أو عرقنا أو جنسنا أو توجهنا الجنساني. وبالتالي ، نريد أن يُعترف بنا على أساس خصائص المجموعة وليس على أساس ما ننجزه كأفراد.
وهذا يتحول إلى ما هو غير ليبرالي لأن إحدى اللبنات الأساسية للليبرالية هي فكرة أنه يتم الحكم علينا كأفراد وأن لدينا هذه المساواة الأساسية تحت ما يعتبره الليبراليون خصائص سطحية للون البشرة والوضع الاقتصادي، لدينا هذا الجوهر الأخلاقي الذي يجعلنا جميعًا بشر. هناك ميل في اليسار الثقافي لإنكار تلك العالمية لصالح العدالة الاجتماعية التي من شأنها أن تعترف بالناس أولاً وقبل كل شيء كأعضاء في مجموعات معينة.