مليون مستريح.. وماحدش مستريح
لم أندهش أبدًا وأنا أتابع قصة إلقاء القبض على مستريح أسوان الذى أصبح اسمه الرسمى «مستريح البهايم»، ولم يفاجئنى على الإطلاق حجم الأموال الذى يتهمونه بحلبها فى شهور قليلة من جيوب الفلاحين البسطاء فى أسوان والمدن المجاورة.. ليس لأننى فقدت الشغف والدهشة حيال مثل هذه الأمور.. ولكن لأن الأمر ليس جديدًا بالنسبة لى ولا لآلاف المصريين من أهل بحرى والصعيد.
منذ ثلاثة أعوام بالتحديد.. وكل زيارة أذهب فيها إلى قريتى فى سوهاج.. ولا سيرة هناك إلا سيرة «المستريحين».. فى كل مرة نصاب جديد.. بشكل جديد.. ولن أدهشك لو أخبرتك بأن بعض الضحايا تعرض للنصب أكثر من مرة.. وبنفس الطريقة أحيانًا، وكأنها سيرة المدمن الذى لا يجد خلاصًا من لعب القمار.
فى الريف ليس سهلًا أن تدفن السر أكثر من ثلاثة أيام.. فحياة الناس من بعد المغرب ليس فيها ما يغنيهم عن النميمة.. ولم تعد حكايات «المسافرون إلى الخليج».. أو الذين ذهبوا إلى العاصمة وعادوا من أصحاب الملايين مغرية للسهر والسمر.. ولم تعد هناك سيرة الهلالية وقصص الأنبياء.. لم تعد «الدواوير» موطنًا للسمر الطيب والثقافة الشعبية.. صارت مرتعًا لمثل هذه الحكايات.
منذ خمس سنوات تقريبًا.. ظهر أحدهم فى صورة «رجل أعمال».. ليس مهمًا فيما يعمل.. ولم يسأل من الأصل أحدنا عما تعنيه هذه الصفة.. فالزمن كان زمن رجال الأعمال الذين توغلوا فى كل الأماكن وحصلوا على كل المزايا.. ويكفى لأى واحد من هؤلاء أن يجلس فى الصفوف الأولى فى أى احتفال رسمى ليصبح بعدها من أصحاب الأعمال المهمة ومن هؤلاء الرجال.. الذين ينتظرهم المجد والحكم والأموال على الباب.. ويسعى الكل من «الكبرات» لرضاهم ومسايرتهم، فما بالك بالفلاحين البسطاء واللى بيكملوا عشاهم نوم؟!
ظهر «الدهان» فى قريتى- الاسم مستعار- مثلما ظهر فى كل قرى سوهاج المجاورة رقمًا صعبًا.. يبنى فندقًا على النيل.. ويشترى من المؤسسات الرسمية عمارات شاهقة.. وكان التفسير الأسهل لمواطنى سوهاج أنه عثر على قطع عديدة من «الآثار».. بالبلدى «لقى كنز».. وصار له عمال.. ومحاسبون.. ومروجون لسيرته ومديرو أعمال ومستشارون إعلاميون.. ولأن الرجل لم يكن يملك أى طموح سياسى.. لم يثر حفيظة أحد.. هو فقط رجل يبنى ويعمل.. ولم يذكر أحدهم مرة واحدة أنه يعمل فى توظيف الأموال.. ربما لأنه لم يحصل على أموال البسطاء، فالذين ذهبوا لمشاركته كانوا من «الكبار»، وهؤلاء لا يحبون التحدث عن أموالهم وأعمالهم.. وفجأة سقط «الدهان» بعد أن تقدم بعض هؤلاء بشكاوى إلى الشرطة.. وانكشف الأمر.
لم تمر أشهر قليلة.. وظهرت مستريحة أخرى فى «المنشاة».. وهى مدينة عرف أبناؤها المقيمون فى القاهرة والإسكندرية والخليج العربى بالعمل فى تجارة المقاولات وبأرقام مليونية.. وكان أن سحبت هذه السيدة التى لا تملك أى مؤهلات علمية تلك الملايين من «سيالاتهم».. على زعم مشاركتهم فى تجارتها التى تعطى أضعاف تجارة المقاولات.. التى كانت تعانى بعض المشكلات فى ذلك الوقت.. وكان أن تم القبض عليها فى الإسماعيلية وسقط معها آلاف الضحايا ممن فقدوا أموالهم.. ثم تبعها مستريح آخر يعمل فى تجارة البيض والفراخ.. وكان الضحايا فى البداية يصمتون على أمل الحصول على أموالهم حتى ولو بعد حين.. فهم يؤمنون بأنهم لن يستفيدوا شيئًا من حبس أى مستريح.
وظهر أكثر من شخص.. وظهر أكثر من مُرابٍ.. لم يعد هناك عمل حقيقى.. المحتاجون يذهبون إلى «المرابين» الذين يقرضونهم بـ«الفايظ».. أو إلى «المستريح» الذى يملك القدرة على تشغيل كل ما هو أقل من مائة ألف جنيه.
ومع كورونا.. والإصلاحات الاقتصادية.. وأزمة الكساد التى ضربت الكثير من البلدان.. ومع تداعيات ما سمى بالربيع العربى.. لم يجد العائدون من الخليج.. أو المستثمرون الصغار من يعملون معه بطريقة آمنة.. وهم فى الوقت نفسه لا يستطيعون العمل كفرادى.. الجميع يعرف ماذا تعنى «المشروعات متناهية الصغر».. والجميع يعرف ماذا تعنى «الموافقات الرسمية» لمن يريد أن يفتح «دكانًا» أو محلًا لبيع الفول والطعمية حتى.. فما بالك بمن لا يملك سوى «بقرتين وعجل»!
القليلون نجوا بذهابهم إلى الصحراء.. وحتى هؤلاء لم ينج أغلبهم من أيادى السماسرة والعرباوية الذين باعوا لهم الصحراء قبل أن تقبل الحكومة تقنين أوضاعهم.. يعنى اشتروا الأرض مرتين.. لكنهم الأفضل على كل حال، فقد تحولت أموالهم إلى جناين وزراعات هى الخير كله.. وهؤلاء قلة لأن العمل فى الصحراء لا يحتاج إلى أصحاب «المائة ألف ومن هم على شاكلتهم».. لكنه يحتاج إلى من يملك الملايين.
أصحاب المدخرات القليلة.. شقا العمر لسنوات طويلة.. أو الذين حصلوا على «نهاية الخدمة».. ذهبوا لشراء شقق وتأجيرها.. أو شراء سيارات وتسليمها لشركات النقل وتشغيلها مقابل عائد شهرى.. وبعد أن امتلأت الشوارع بهذه التاكسيات.. وارتفاع أسعار السيارات.. لم يعد هذا الأمر متاحًا.. فماذا يفعل أولئك الصغار؟.. يذهبون قطعًا لمن استطاع إقناعهم على الأرض بمكاسب جمة فى أيام قليلة.. أضف إلى ذلك من يعتقد بالفعل فى أن «الريان» كان على حق، وأن الحكومة هى التى استولت على أمواله وحبسته.. وليس بعيدًا عن ذلك ما يبثه المشايخ إياهم يوميًا عن «أموال البنوك الحرام».. والآن.. لا يخلو الأمر عن وجاهة.. حركة الاقتصاد العالمى لم تعد مستقرة فماذا يضمن له ألا تذهب أمواله إن أودعها فى البنوك؟.. وما الذى يضمن له ألا تقل قيمتها السوقية فى وضع اقتصادى مضطرب فى العالم كله؟.
البسطاء الذين وقعوا فى خَيَّة سائق التوك توك ليسوا طماعين كما يحلو للبعض أن يصورهم.. أو سذجًا.. لكنهم ضحايا ارتباك السوق.. سوق العمل.. ضحايا عدم وجود من يشرح لهم ويسهل لهم ويرفع عنهم «غتاتة» الموظفين فى المحليات والمؤسسات التى تمنح التراخيص، أى تراخيص.. هم أبناء الحاجة.. سواء كانوا تجارًا للمواشى أو مجرد فلاحين لا يملكون سوى بقرة.. حلبها تجار الأعلاف الذين لا يحاسبهم أو يراقبهم أحد.. وتجار المبيدات والتقاوى المضروبة قبل أن يحلبها «مستريح التوكتوك».
لن يتوقف الأمر.. قبل أن يجد أمثال هؤلاء سوقًا لأعمالهم وملجأ لمدخراتهم الصغيرة.. لن ينتهى عصر المستريحين لمجرد القبض على بعضهم- وإن كان هذا حسنًا بالطبع- لكن تسويق البنوك لأعمالها بشكل مختلف وتغير خطابات المؤسسات الدينية الرسمية ووسطائها لأمر شديد الضرورة، والأهم من كل ذلك.. هو البحث عن بديل عن «الاقتصاد الأهلى بشكله القديم».. لا تنتظروا من أهلنا فى سوهاج وقنا وأسوان والدلتا أن يذهبوا إلى البورصة.. فهم لا يعرفونها ولا يريدون معرفتها من الأصل.. راجعوا أعمال المناطق الصناعية فى المحافظات وطرق عملها.. وابحثوا عن «البديل» وإلا فإن الفوضى مستمرة.. و«المستريحون» كذلك مستمرون.