من الهدم إلى البناء
لا يهمنى فى هذه الواقعة تحديد اسم بعينه أو الاستغراق فى تفاصيل دقيقة بقدر ما يهمنى أن نصل لمعنى معين.. والواقعة هى خروج ناشط سياسى شهير ارتبط اسمه بـ«ثورة يناير» ليعتذر عن جملة ممارسات مختلفة قام بها على مدى السنوات الماضية.. أظن أن ذلك الجزء الذى يعتذر عنه من ممارساته هو فيديوهات طويلة كان يلجأ فيها لطرق مختلفة للفت الانتباه، كأن يحلق شعر رأسه كاملًا أو يجلس أمام الكاميرا وقد خلع قميصه، أو بتعاطى بعض أنواع المخدرات أمام الكاميرا!! والحقيقة أنه نجح فى لفت الانتباه بالفعل، وهذا دليل ذكاء، حتى وإن كان ذكاءً موظفًا بطريقة خاطئة.. فى الاعتذار تحدث الشاب أيضًا عن اللغة غير اللائقة التى كان يتحدث بها وما أسماه التلاعب بوعى الشباب، وبغض النظر عن التفاصيل فقد عبّر هذا الشاب عن رغبته فى «خدمة بلده» وفى «أن يكون من المصلحين» وأنه مستعد أن يكون «فى خدمة بلده».. أنا لا أتحدث عن هذه الحالة بعينها.. لأن «كل فولة ولها كيال» و«كل مقام وله مقال».. وكل حالة هناك مَن هو مختص بالتأكد من صدق نواياها ودوافعها.. ولكننى أتخذ هذه الحالة لهذا الناشط الشهير لأتحدث عن منهج التعامل مع مثل هذه الحالات.. لدينا عشرات أو مئات شاركوا فيما اعتقدوا أنه «ثورة» وبالتالى كان منهجهم «ثوريًا» وهو مصطلح يشير إلى هدم ما هو قائم وإعادة بنائه من جديد.. وقد كانت هذه هى الرغبة المزمعة والمعلنة لعدد كبير من هؤلاء «النشطاء».. جرت الأمور فى اتجاه عكسى بعد عامين ونصف العام من قيام «ثورة» يناير.. وأدرك المصريون كم المخاطر التى تهدد وجودهم لو تم هدم الدولة المصرية، وتعاون الشعب مع المؤسسات فى استعادة الدولة المصرية بعد تجربة مريرة فى عام حكم الإخوان الذين أعلنوا أنهم هم «الثورة» فكرههم المصريون وكرهوا الثورة.. لم يستوعب عدد كبير من هؤلاء «النشطاء» ما حدث.. ومر بعضهم بمرحلة انعدام وزن.. والتحق بعضهم بذيول الإخوان فى الخارج خوفًا أو طمعًا.. وظن بعضهم أن ثورة ٣٠ يونيو ستنكسر بعد أيام، فخاب رهانهم وحصدوا ثمار غيهم.. المهم أنه من بين هؤلاء فريق قرر أن يتحول من «ثورى» إلى «إصلاحى»، أى أن يعمل على إصلاح الأحوال من داخل المؤسسات السياسية مثل مجلس النواب ومجلس الشيوخ أو العمل التنفيذى إذا كان مؤهلًا له.. هؤلاء «الإصلاحيون» واجه بعضهم نوعًا من التشويه والتكفير السياسى والمزايدة من زملائهم من أنصار هدم الدولة وحلفاء الإخوان.. توجد نماذج ناجحة منهم فى مجلس النواب وتنسيقية شباب الأحزاب.. لكن المطلوب هو أن يتحول هؤلاء «الإصلاحيون» لتيار واسع يستقطب الشباب المصرى العادى الذى يحلم بغدٍ أفضل وكان مؤيدًا لـ«الثورة» بحسن نيه ورومانسية ورغبة فى رؤية وطن أعظم.. يجب أن نفسح لهؤلاء المجال ونراهن معهم وعليهم، وأن نمارس نوعًا من المغامرة المحسوبة مع من يعلن منهم رغبته فى العمل السياسى، مع اتخاذ ما هو متعارف عليه من إجراءات طبعًا.. بشكل عام يوجد تيار سياسى يؤيد الدولة المصرية فى عهودها المختلفة منذ ثورة يوليو وحتى الآن.. تيار تقليدى تنقل بين هيئة التحرير والاتحاد الاشتراكى وحزب مصر والحزب الوطنى، وبعضه موجود فى أحزاب قائمة حتى الآن.. هؤلاء أناس محترمون لا غبار عليهم ولا لوم ولا تثريب.. لكننا إلى جوار هؤلاء يجب أن نفتح الباب لنماذج جديدة من التى مرت بتجارب سياسية مختلفة ولها ثقافة سياسية مختلفة وتأثير فى قطاعات مختلفة من الشباب.. هؤلاء لا يجب أن نتركهم عرضة للغضب أو الفراغ أو لاستمالة الإخوان، ولكن يجب الحوار معهم والوصول لصيغ مختلفة للتعاون، والسماح لهم بالتواجد والعمل تحت سقف الشرعية.. هذا الشاب الذى تحدثت عنه مثلًا يبدو لى، لتكوينه المهنى وتجاربه، أكفأ مئات المرات من صحفى شاب رأيته فى محطة أجنبية يُقدّم على أنه رئيس حزب ويطلق مجموعة من الشعارات النظرية والمزايدات والجمل الخطابية التى تكشف عن ثقافة محدودة وخيال سياسى ضيق يكاد يكون إعادة لإنتاج خطب مصطفى كامل باشا عام ١٩٠٠، مع الفارق العظيم لصالح الزعيم الوطنى بكل تأكيد.. منذ سنوات لفت نظرى وأنا أقرأ تاريخ «ثورة ظفار» أن يوسف بن علوى، أحد زعماء الثورة، تولى منصب وزير خارجية سلطنة عمان لمدة أربعين عامًا كاملة، وأصبح واحدًا من أخلص وأكفأ رجال الدولة فى تلك السلطنة الشقيقة، وهناك حالات أخرى شهيرة فى دول عربية شقيقة لا مجال لذكرها الآن.. والمعنى أن السياسة عملية ديناميكية متغيرة، وأن القناعات تتغير والأفكار تتغير والمواقف تتغير لكن المبادئ الأخلاقية لا تتغير.. مرة أخرى لا أتحدث عن حالة بعينها، ولكن أدعو لفتح الباب واسعًا لكل من يرغب من «الثوريين- أنصار الهدم» فى أن يتحولوا لـ«إصلاحيين- شركاء فى البناء»، وأظن أن نجاح التجربة سيفتح الباب لمزيد من الصادقين وسيكشف أيضًا الكاذبين.. والحياة كما نعرف فيها هؤلاء وهؤلاء.