جبر الخواطر.. إنسانية..
دائماً ما أفكر فى بعض المفاهيم الخاطئة والمتوارثة فى حياتنا.. وأتسأل: لماذا نتركها دون مقاومة ورفض وتغيير؟
من أخطر هذه المفاهيم هو مفهوم "قبول العوض"، وأقصد به التعويض الذى يتحمله أى شخص مقابل خطأ تسبب لخسارة لشخص آخر.
لا يمر يوم إلا ونرى ونسمع فى الشارع عند اصطدام سيارة بأخرى.. بأحدهم يصيح متطوعاً لفعل الخير "حصل خير.. والمهم أنك كويس.. وأتكل شوف شغلك.. هتقبل العوض يعنى..". ولا يعطيك فرصة لتعبر عن نفسك أمام تلك الجماهير الغفيرة التى تجتمع لتشاهد ما سيحدث دون تدخل بقدر ما هو شغف متابعة "الخناقة.. هتخلص على أيه..".
الطبيعى أن المجنى عليه الذى تضررت سيارته.. يغضب لأنه يعرف التكلفة المادية المرتفعة لإصلاح السيارة. وتجد من يتضامن معك، وبعد الجدال المعتاد.. يرى عدد من الجماهير الغفيرة أك على حق وهو على خطأ، ولم يرفض هذا الرأى سوى الذى أخطأ. وعندما يسأله أحدهم: لو أنت من تعرضت سيارته للضرر.. هل كنت ستترك من تسبب لك فى ذلك ليرحل ببساطة.. أم ستتمسك بحقك فى "تصليح" الخطأ الذى ارتكبه؟!
وكالعادة.. تكون الإجابات شديدة المراوغة مراوغة شديدة. وسرعان ما تجد من يردد
بعض العبارات الاستهلاكية من عينة: ربنا يعوض عليك، وفداك، والحمد لله أنها جات على قد كيده، والحمد لله أنها مجتش فى وش العربية، والحمد لله أنها خبطة خفيفة، واحمد ربنا أنها جت فى العربية.. ومجتش فى صحتك ولا صحة عيالك، وقضا أخف من قضا وربنا يعوض عليك.
وهى جميعها كلمات مجاملة لفض الحكاية، وهى كلمات تجعلك.. تلتزم الصمت بعد أن تم تغليفها بإطار دينى رغم أنها حادث لا علاقة للدين له من قريب أو بعيد..
وتجاهلت الجماهير الغفيرة.. اعتباره مجرد خطأ وعلى من ارتكبه أن يدفع ثمن خطأه، بقدر ما هى تجربة أو امتحان إلهى.. عليك أن تحمد ربنا عليه وتشكر من ارتكب الخطأ فى حقك.. وتتركه يمضى راحلاً.. وكأن شيئاً لم يحدث من الأصل.
أليس العدل الذى يفرضه القانون ينص على إقامة الأحكام وتنفيذها، ومن أخطأ.. يجب أن يعاقب، ومن أرتكب جريمة.. يجب أن يحاسب عليها، ومن تسبب فى خسارة.. يجب أن يعوض من خسر. أم نترك الحقيقة تتوه.. والعدل يضيع.. والفوضى تعم..
لا يستوعب هذا الذى صاح "هتقبل العوض يعني".. برحلة العذاب وتضييع الوقت من اجل إصلاح وتغيير ما تم اتلافه فى السيارة لإعادتها لحالتها الأصلية مرة أخرى، ولا يستوعب التكلفة المادية المرتفعة للإصلاح، والتى سيتحملها الطرف المجنى عليه فى هذا الحادث.
على الشاطئ الأخر.. سيدة يتم صفعها، وأخرى يتم ضربها، وأخرى يتم إهانتها، وأخرى يتم التحرش بها، وأخرى تعانى الحسرة والخذلان من أقرب من لها، وأخرى يتم سلب حقوقها، وأخرى يتم استحلال مصدر رزقها.. ليعانوا جميعاً من القهر والظلم..
نقطة ومن أول الصبر..
يمكن تعويض الخسائر المادية بمقابل مادى يوازى قيمة إصلاح الخسائر..
ولكن فى الحياة.. ليست كل الخسائر مادية فقط.
كيف يمكن تعويض المشاعر والكرامة والأحاسيس والإنسانية..
وهى جميعها لا تقدر بثمن، ولا يمكن تعويضها بقيمة ماليه مهما كانت..
أنها هندسة إنسانية لأشياء عظيمة لا تقدر بثمن.. هى أشياء لا تشترى..