تقشفوا يرحمكم الله
منذ زمن طويل ألاحظ أن إعلامنا مغرق فى المحلية.. ننظر فى مرآة أنفسنا فقط.. ندور حول ذواتنا ونعيد إنتاج أفكارنا ومسلماتنا وثوابتنا فلا نتقدم أبدًا للأمام.. نشبه رجلًا ينظر فى المرآة فيتضايق أن وزنه زاد كيلوجرامًا واحدًا ولا يدرك أن الحرائق مشتعلة فى منزل جاره.. مشغولون بأنفسنا ودائمو الشكوى ولا نحمد الله إلا قليلًا.. من أعراض انكفائنا على ذواتنا أننا لا نعرف أن العالم كله يعانى من آثار الأزمة الاقتصادية.. الدول الكبرى مثل ألمانيا وبريطانيا وغيرهما تتخذ إجراءات تقشفية.. بعض الحكومات يتخذ إجراءات استثنائية للتغلب على النقص المتوقع فى الغذاء.. الجميع يتحدثون عن ضرورة «التقشف» ويتخذون إجراءات استثنائية على أرض الواقع، والبعض هنا فى غيهم سادرون.. لا أتحدث عن ملح الأرض من الفقراء فهم متقشفون إلا ما ندر ولكن أتحدث عن شرائح أعرض ويصل عددها إلى الملايين.. تحولنا إلى جيوش من المستهلكين.. نأكل الأخضر واليابس.. لا أحد يفكر فى الادخار أو فى أن «القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود»، كما كان يقول آباؤنا وأجدادنا.. لم تكن هذه طبيعة المصريين حتى السبعينيات.. كان الفقراء يدخرون مبلغًا شهريًا عن طريق «الجمعية» وهى نظام ادخار تكافلى ابتدعه المصريون.. كان كثير من الفقراء ينهى حياته ببناء بيت صغير به عدة شقق والحج لبيت الله وكان هذا يعتبر دليل نجاح فى الحياة إذا اجتمع مع أبناء صالحين ومتعلمين.. كان هذا هو العادى بين الشرائح الصغرى من الطبقة الوسطى والذين انضموا إليها بفضل السياسات الاجتماعية فى الستينيات.. كان بعض المصريين يقتر على نفسه فى المعيشة حتى يرى أبناءه «دكاترة ومهندسين» على حد حلم كثير من الأسر المصرية الذى تحقق.. ما زلت أذكر وأنا طفل فى حى شبرا ما قاله البائع النمام لأحد المشترين حول سيدة فاضلة مرت فى الشارع قال يصفها «جوزها مات وساب لها ٣ عيال.. ماكانوش بياكلوا غير جبنة وحلاوة.. دلوقتى كلهم دكاترة ومهندسين».. كان الرجل يلخص رواية كاملة فى سطر.. كان يروى قصة كفاح عظيمة فى جملة نميمة.. لم نعد هكذا الآن.. فقد الفقراء الأمل فى الصعود من خلال التعليم فتحولوا إلى مستهلكين.. انخرطنا جميعًا فى سباق الاستهلاك.. ما جمعناه بالشقى فى الغربة سنوات طوالًا أنفقناه فى شارع الشواربى والمولات ومحلات الطعام.. أصبحنا قطيعًا من المستهلكين.. الحكومة تشبه أمًا لها ابن فاسد تداريه وتطاوعه وتخشى عليه من الضياع فلا تصارحه بأن سلوكه سيئ.. كل شىء يشير إلى أن هناك خللًا.. قضايا الغارمات وغير الغارمات ونظرتنا للزواج فيها خلل.. تجهيز الشباب بكل مستلزمات الرفاهية وهو ما زال بلا أى إنجاز فى الحياة فيه خلل.. توجيه أموال الزكاة لتزويج من لا يستطيع وتجهيز منزله بالكماليات فيه خلل.. عدم احتلال التعليم الأولوية فى الإنفاق على أوجه الخير فيه خلل.. الحكومة أعلنت عن إجراءات تقشفية لكننا نريدها أن تعلن التفاصيل للناس.. ونريد أن يناقشها مجلس النواب فى هذه التفاصيل وأن يعصرها عصرًا نحو مزيد من التقشف.. رئيس الوزراء محل ثقة كبيرة ولكن البيروقراطية المصرية تتوارث منذ عقود مزايا خفية وطرقًا لا حصر لها للحفاظ على مميزاتها.. وهو ما لا يتوافق مع توجهات الدولة وسياسات البناء.. مطلوب أن نبدأ جميعًا حملة للتقشف.. لاحظت أن المواقع الإلكترونية تبالغ فى نشر أسعار الزيادات فى بعض أنواع الجبن الفرنسى والأوروبى الذى دخل السوق المصرية منذ خمسة عشر عامًا فقط أو أزيد قليلًا.. وجدت نفسى أهمس وماذا لو أكلنا الجبن القريش؟ إن هذا هو حال ملايين المصريين منذ عقود طويلة.. بل إن بعضهم كان يعتبر الجبن القريش رفاهية ولا يجد سوى الجبنة القديمة أو «المش» كما يسميه أهلنا فى الصعيد.. ما الفارق؟ لا فارق.. سوى أن مصر تقرر لها أن تكون سوقًا للاستهلاك فاستجابت ولا مانع من هذا.. لكن العالم كله يمر بظرف استثنائى الآن.. ولا أحد يعرف ماذا ستسفر عنه الأزمة ومطلوب أن تتحدث الحكومة مع الناس بصراحة وصدق وألا تخاف من أن يشعروا بالصدمة.. فلا أحد تسبب فى هذه الأزمة العالمية سوى صراعات الكبار.. مطلوب من الإعلام أن ينقل لنا انعكاسات الأزمة على دول العالم وأن يخبر الناس بأننا جزء من العالم.. مطلوب من الجميع إعلان التقشف والحديث عن ضرورة التقشف.. مطلوب من الخبراء أن يشرحوا للناس ما هو التقشف ولماذا هو ضرورى وحتمى.. مطلوب أن نعود للحديث عن فضيلة الادخار وأن نضع حصالة صغيرة فى غرف أطفالنا بعد أن أغرقناهم بالوجبات السريعة والألعاب الإلكترونية والتليفون المحمول وكل صنوف الاستهلاك.. مطلوب أن «نعيش عيشة أهلنا» ولو إلى حين مرور الأزمة. فهل هذا ممكن؟