حيلة ذكية.. لماذا قرر محمد عبد الوهاب أن تغنى فيروز أغنياته؟
قبل واحد وثلاثين عاما بالتحديد في مثل هذا اليوم من العام 1991، رحل عن عالمنا النهر الخالد موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، والذي تعلمت على يديه أجيال عديدة من الفنانين والمطربين، غنى ولحن وملأ الدنيا موسيقى وفن وجمال.
ويقول الكاتب الصحفي الراحل محمود عوض عن الفنان محمد عبد الوهاب: كانت الألحان والموسيقى هي حياة عبدالوهاب، هي متعته وكل ما يحيا من أجله، وكانت أي لحظة أو ساعة من اليوم تضيع بغير عمل أو دعاية لعمل هي وقت ضائع وغير محسوب.
ويشدد عوض على: أستطيع أن أقول إن حياة عبدالوهاب، حياته كلها هي سلسلة من المقاطعة المستمرة، إن عبدالوهاب يعمل وعندما ينشغل بشيء آخر فإنه لا يستأنف العمل، إنه فقط يعمل من جديد. هذا ضرورى لفهم شخصية عبدالوهاب، لأنه خلال خمسين سنة كان كل ما يطلبه من الدنيا هو أن تسمح له بالعمل والغناء والتلحين. لقد ظل كذلك بصفة مستمرة، في الجو الصحو والجو الممطر، في الشارع أو في المنزل أو على الرصيف، خلال الحروب والثورات والاضطرابات، خلال الجوع واليأس والهجوم والنقد والسخرية، والإذلال والاكتئاب والهزيمة، ثم أخيرا بعد أن حقق جزءا كبيرا من أحلامه أصبح يعمل بحماس أكثر مما كان لديه في البداية.
بين موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وجارة القمر فيروز
المسافة بين أغاني محمد عبد الوهاب القديمة وبين المطربة اللبنانية الرقيقة فيروز، ليست مسافة زمنية فقط، إنها قبل كل شيء مسافة في الصوت والأداء. وفي العشرينيات والثلاثينيات الأولى من القرن العشرين، كانت حنجرة محمد عبد الوهاب تتألف من أجمل وأكمل الأوتار الغنائية.
ويوضح الناقد الفني كمال النجمي: كان محمد عبد الوهاب صوتا جديدا تماما بالنسبة لأصوات ذلك الزمان، كأنه شعاع انبعث من نجم بعيد مجهول. كان صوته صادحا ــ على حسب المصطلحات التي أقرها المجمع اللغوي ــ أو صوتا من قسم “التينور” على حسب مصطلحات الغناء الأوروبي.
ولكن جماله لم يكن في كثرة طبقاته فقط، بل كان قبل ذلك في نفاسة نبراته هبوطا وصعودا. وقد يمتلك مغن صوتا كثير الطبقات، ولكن العبرة ليست بكثرة الطبقات، فأهم منها معدن الصوت. وقد كان معدن صوت محمد عبد الوهاب من أنفس وأرقي معادن الأصوات التي عرفتها مصر والبلاد العربية في المطربين.
ويتابع “النجمي”: كان محمد عبد الوهاب كروانا حقيقيا عندما غنى “خايف أقول اللي في قلبي” و"يا جارة الوادي" وبقية أغانيه حينذاك. ولأسباب فسيولوجية ــ فيما يبدو ــ أسرعت إلى صوت عبد الوهاب بعض تغيرات واضحة.
وفي الأربعينيات بدا صوت عبد الوهاب وكأنه استقر نهائيا، واتخذت نبراته شكلها الأخير، ولكن التغيرات التي كانت دائما من طبيعة حنجرة عبد الوهاب لم تتوقف، ولم تسر ببطء كما كان المتوقع، بل عادت بعد فترة إلى الجري السريع، فتغير صوته مرة أخري، وتحول نهائيا إلي صوت ذي نبرات غليظة.
ويلفت "النجمي" إلى: وفي السنوات الأخيرة، بدأ عبد الوهاب يحن لماضيه، لكن لا سبيل إلى هذا الماضي، فقد انسدل الستار على الصوت الذي صنعه. ولا أدري الظروف النفسية التي دفعت محمد عبد الوهاب إلى إحياء ماضيه في حنجرة المطربة اللبنانية الرقيقة فيروز.
لعل الظروف النفسية لم تكن وحدها في هذا الموقف فهناك الأرباح. وهكذا سمح عبد الوهاب لــ “فيروز” بغناء “يا جارة الوادي” و“خايف أقول اللي في قلبي”، بدعوى إظهارهما في إطار جديد من التوزيع الموسيقي.
وكانت مفاجأة كبيرة لنا نحن الذين سمعنا هاتين الأغنيتين بصوت عبد الوهاب القديم، عندما سمعناهما بصوت فيروز محدود الطبقات والنبرات.
لقد أراد عبد الوهاب تذكير الناس بصوته القديم، فلجأ إلى هذه الطريقة الذكية. اختار مطربة معروفة وهي فيرزو في مصر ولبنان والبلاد العربية، وأقنعها أن تغني أغانيه القديمة.
ولما سمع الناس فيروز تغني، عادوا إلى أسطوانات عبد الوهاب القديمة، فبهرهم صوته، وأدهشهم الفرق الواضح بين إمكانيات هذا الصوت العظيم وبين إمكانيات الصوت النسائي الذي يقلده الآن بعد مرور أربعين عاما، وكسب عبد الوهاب من جميع الوجوه من وراء فيروز والأخوين رحباني.