هل تدخل الولايات المتحدة.. عصر اللا عقل؟
فيما كان يحيي بطولة الأوكرانيين في الصمود، قال الرئيس الأمريكي، جو بايدن، للقوات الأمريكية العاملة في إطار حلف الناتو «سترون عندما تصبحون هناك»!، الأمر الذي استدعى تقديم توضيح من المسئولين الأمريكيين، بأن شيئاً لم يتغير في موقف البيت الأبيض من المشاركة المباشرة في القتال الدائر في أوكرانيا.
وأشاروا إلى أن "الرئيس بايدن كان واضحاً، بأننا لن نرسل قوات أمريكية إلى أوكرانيا".. ثم عاد الرئيس بايدن وأخفق مجدداً فقال، إنه سيرد "بالمثل" على أي استعمال لأسلحة كيماوية من قبل روسيا في أوكرانيا، مما أدى إلى وضع محرج، اضطر فيه جاك سوليفان، مستشار الأمن القومي، إلى إبلاغ المراسلين الصحفيين بأن الولايات المتحدة "ليس لديها أي نية باستخدام أسلحة كيماوية في أي ظرف من الظروف".
وهكذا، ومنذ فترة أصبح مصطلح "زلة لسان" يترافق واسم جو بايدن، بشكل بارز، في عناوين الأخبار، وكان آخرها تعليقه، عندما قال ـ أي بايدن ـ عن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، "بحق الله، لا يمكن لهذا الرجل أن يبقى في السلطة".
هذا التعليق المرتجل، أدى إلى إرتباك عدد من المسئولين الأمريكيين، باعتبار أن أي شيء ينطق به الرئيس في خضم أزمة دولية سيكون له تداعيات مؤكدة. لذا، أصدر البيت الأبيض بياناً توضيحياً آخر، ذكر فيه مساعدو الرئيس، الذين لا بد أنهم شعروا بالدوار، لفرط ما اضطروا إلى "التراجع" عن أقوال الرئيس، أن "وجهة نظر الرئيس، هي أنه لا يمكن السماح للرئيس بوتين ممارسة السلطة على الدول المجاورة أو على المنطقة.. لم يكن يناقش سلطة بوتين في روسيا، أو تغيير النظام"، وجاءت الاستجابة الأولى من الكرملين معتدلة نسبياً، إذ جاء فيها أن "هذا القرار لا يعود لبايدن، فرئيس روسيا منتخب من قبل الشعب الروسي". كما قال ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم بوتين.
وظهرت نائبة الرئيس الأمريكي، كمالا هاريس، وهي تحاول تصحيح زلة لسان بايدن، حينما تحدث عن العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، مؤكداً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ربما يتمكن من تطويق كييف، "لكنه لن يحصل أبداً على قلوب وأرواح الشعب الإيراني…"، حيث حاولت هاريس تذكيره بأنه يقصد الشعب الأوكراني.. وقبل أيام، ظهرت زوجته، جيل بايدن، وهي تذكره بمصافحة الجمهور خلال مشاركته بالحفل الأول، الذي أقامه البيض الأبيض بمناسبة عيد الفصح.
ماذا نريد قوله، من وراء ما أوردناه هنا من أمثلة؟. منذ فوزه بترشيح الحزب الديمقراطي، لمنافسة الرئيس السابق، دونالد ترامب، لم يتوقف الجدل حول صحة جو بايدن، الرئيس الديمقراطي الذي خبر السياسة الأمريكية لعقود، ونجح في إقناع الناخب الأمريكي بخبرته ورؤيته السياسية، الناتجة عن سنوات خدمته الطويلة.. لكن هذه الخبرة لم تغمض عيون الناخبين، عن كونه أكبر الرؤساء الأمريكيين سناً، عند استلامه مفاتيح المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، متجاوزاً الـثمانية وسبعين عاماً، وخصوصاً بعد تكرار ظهور علامات الشيخوخة عليه، مع كل خطاب أو مؤتمر جماهيري، إلى الحد الذي دفع إلى التشكيك في سلامة قدراته العقلية، مع تلعثمه المتكرر ونسيانه وخطأه في أسماء الدول والرؤساء، وأخيراً، ترديده كلمات غير مفهومة وإتيانه إشارات وتصرفات غريبة خلال بعض الخطابات.
وبعيداً عن الفكاهة التي أثارتها بعض تصرفات بايدن، وسيل التعليقات الساخرة التي أظهرتها تفاعلات المتابعين لبعض المقاطع المتداولة أخيراً، ومن بينها مقطع يبدو فيه بايدن وكأنه (يصافح الهواء)، عقب انتهائه من إلقاء خطاب، اتخذ الجدل حول صحة الرئيس الأمريكي منحى أكثر جدية وأشد خطورة، بعدما أظهرت نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة، أن الأمريكيين غير متأكدين من اللياقة العقلية للرئيس لتولي المنصب.
وقال الرئيس السابق، دونالد ترامب، أمام تجمع حاشد لمؤيديه في ميشيجان، قبل عدة أيام، "بينما لا يمكننا فعل أي شيء حيال تدهور حالة جو بايدن الجسدية والعقلية، بمساعدة أصواتكم في نوفمبر، لدينا فرصة لوقف التدهور في بلدنا"، في دعوة للتصويت للجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي بالكونجرس المنتظرة، وهو ما قد يمهد لإجراءات ضد الرئيس بشأن تسليم السلطة.
لقد بدت السنة الأولى لجو بايدن في البيت الأبيض، في نظر الكثيرين، وكأنها الأخيرة.. وفي هذا بعض الظلم للرجل الذي يمتلك خبرة داخلية وخارجية أكثر من أسلافه، بعد الرئيس جورج بوش الأب.. فهو قضى أكثر من أربعين عاماً، عضواً في لجنة الشئون الخارجية في مجلس الشيوخ، ثم رئيساً لها ثم نائباً للرئيس في ولايتي أوباما.. لكن الواقع قاسٍ، والتحديات الداخلية والخارجية أمامه هائلة.
ومن المبالغات قول وزير الدفاع ومدير الاستخبارات المركزية سابقاً، روبرت جيتس، كما جاء في صحيفة الإندبندنت، "من الصعب ألا تحب جو بايدن، لكنه أخطأ في مواقفه في معظم القضايا".
والمشهد بالغ التعبير.. الجمهوريون يرون ولايته مجرد فاصل بين ولايتين، سابقة وآتية لترامب، ويستعدون لاستعادة الأكثرية في الكونجرس خلال الانتخابات النصفية في نوفمبر المقبل.. والديمقراطيون الذين اختاروه لم يسهلوا له تنفيذ مشاريعه.. وشعبيته انخفضت إلى 43%، وهي نسبة متدنية للرئيس في سنته الأولى.. وكل دعواته، منذ خطاب القسم، إلى التضامن والتعاون بين الحزبين، لم يستجب لها الجمهوريون الذين لا يزال ترامب يقودهم.. أما الانقسام الداخلي، فإنه عميق وحاد.. والأخطر هو تنامي تيار يميني متشدد، يمثله الذين هاجموا الكونجرس، بحيث رأى البروفيسور جوناثان كيرشنر أن أمريكا دخلت "عصر اللا عقل"، مع مجموعات واسعة تدعم نظريات المؤامرة المتهورة.. وأما المفارقة، فإنها في تأثير التغيير الديموجرافي الذي "يحول أمريكا، من أمة أكثرية بيضاء، إلى أمة متعددة الأعراق والإثنيات، من دون أن يشكل أي منها أكثرية"، كما كتبت آن ماري سلوتر في الإيكونوميست.. فالمفترض أن يسهم التغيير الديموجرافي في تنامي شعبية الحزب الديمقراطي، الذي هو أصلاً حزب الأقليات، لكن ما يحدث ليس كذلك.
من الطبيعي هنا، أن يقلل الانقسام الداخلي مصداقية أمريكا في الخارج.. وتبدو التحديات الخارجية أمام بايدن أكبر من وصفها بأنها "سباق مع الصين ودول أخرى للفوز بالقرن الحادي والعشرين"!.. فما ركز عليه سيد البيت الأبيض هو "عودة القيادة والدبلوماسية، عودة إلى قيادة العالم وإلى الدبلوماسية كاستثمار نفعله، ليس فقط لأنه الصواب، بل أيضاً لأنه يصب في مصلحتنا".. لكن ما اصطدم به بايدن، هو المزاج الأمريكي الرافض دفع المزيد من المال والدم في "مغامرات دونكيشوتية لاستعادة النظام الليبرالي وإعادة تشكيل العالم على صورة أمريكا"، كما تؤكد ميرا راب هوبر، وريبيكا ليسنر، من مجلس الأمن القومي.
وأيضاً صعود الصين وعودة روسيا، وتحديات كوريا الشمالية النووية.. تحديات إيران في برنامجها الصاروخي، وسلوكها المزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط، وتشكيل ميليشيات مسلحة مذهبية موالية لها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، إلى جانب برنامجها النووي.. تنامي التيار اليميني المتطرف في أوروبا، وعودة اليسار في أمريكا اللاتينية إلى السلطة في دول عدة.
والرد الأمريكي على هذه التحديات ليس سهلاً.. ففي المرحلة الماضية كان رد الفعل في الكونجرس هو الموافقة على إرسال المارينز أو فرض العقوبات.
ما اليوم، فإن إرسال المارينز ليس على جدول أعمال بايدن، والدبلوماسية وحدها ليست ورقة قوية في ردع إيران وكوريا الشمالية، والعقوبات وحدها ليست سلاحاً فعالاً ضد بوتين في أوكرانيا بعد جورجيا.. المشكلة في أمريكا نفسها، لا فقط في سياسة بايدن وسواه.. أمريكا التي "تريد فوائد النظام العالمي دون أن تقوم بالعمل الصعب لبناء هذا العالم وصيانة"!.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.