«حراس الحزن» رواية العبث: رحلة في حياة أشخاص لا أسماء لهم (تحليل روائي)
تجربة سردية مختلفة وفريدة، أقدم عليها الروائي السوداني أمير تاج السر في روايته الأخيرة "حراس الحزن" الصادرة مؤخرًا عن هاشيت أنطوان نوفل.
مرجع هذا الاختلاف بين "حراس الحزن" وباقي الروايات في رصيد تاج السرد، هو أن الرواية تجنح نحو قدر كبير من العبثية في أحداثها ومسارات شخصياتها، إذ تبدو كل الشخصيات الرئيسية وكأنها بلا هدف تمضي إليه منذ مفتتح الرواية، فالشّخصية الرئيسية (علي صلاح) الضابط الإداري في إدارة الحكومات المحلية، يتلقى تكليفًا بالانطلاق إلى قرية بعيدة ليباشر خدمته فيها، ومنذ هذه اللحظة الافتتاحية يبدأ العبث، فيستقبل علي صلاح في شقته مجموعة من الغرباء جاءوا ليودّعوه، لا يعرف أحدًا منهم، وتدور بينهم حوارات عبثية، يعقب ذلك حدث عبثي آخر متمثل في اختفاء زميل علي صلاح المكلف بالذهاب معه إلى قرية خور عاج، ورحلة قصيرة يخوضها علي صلاح للبحث عن صديقه، ثم اكتشافه بأن هذا الصديق الذي يعيش في حي "بلا اسم" قد تزوج من سيدة مسنة وفقيرة.
أسماء الشخصيات.. مفتاح غرفة العبث
في "حراس الحزن" عدة خطوط درامية، إلا أنها بحكم الغلالة العبثية المسيطرة على الرواية، لا تتطور إلى الأمام كثيرًا، كما وأنها لا تشتبك وتتضفّر في جديلة سردية واحدة، بل تبقى مشتتة أغلب الوقت، بحيث لا يمكن تلقيها كحدث درامي مترابط ومتصاعد، بل هي تبدو أقرب للومضات للغرائبيّة، والتي قد يُحتمل تلقيها كنوع من الرموز.
من الإشارات في "حراس الحزن" الأسماء، بل تبدو الأسماء عمومًا في الرواية، وكأنها أحد أبطال العمل، لا بغرائبيتها فحسب، بل بألاعيب أخرى أقدم عليها تاج السر كلها تدور في فلك التلاعب والتجريب وفك البراغي وربطها، في ملف سردي صغير ودقيق اسمه (أسماء الشخصيات)، بداية من وجود حي بلا اسم، مرورًا بأسماء مثل سعد نزوة صديق البطل، وأبراموشا والقسيس، وصولًا إلى تخلي أحد شخصيات الرواية عن اسمه، ثم عبورًا إلى ظاهرة نسيان البطل لأسماء الناس مما يدفعه عادة لوضع أسماء محتملة لهم، وهوايته في تسمية المحيطين به، مثل الطفل بلا اسم الذي أسماه التائه، أو سكرتيرة المدير واسمها مسك الدار، واقترح عليها علي صلاح أن تغير اسمها إلى جلوريا. حالة ضبابية تتلبس الشخصيات والأماكن بداية من أسمائهم، الأمر الذي يحيل إلى حالة من اللايقين، على اعتبار أن الأسماء هي من البطاقات التعريفية الأولى لكل شيء وشخص. تمتد حالة اللايقين تلك مع حرص الروائي على طمس هوية المدينة التي تجري فيها الأحداث، على الرغم من يقيننا من خلال بعض الإشارات العابرة أن الأحداث تجري في السودان.
اللغة المناسبة
تمتد حالة اللايقين المضمرة في مسألة الأسماء، إلى الأحداث نفسها، حيث يكثر إيجاد الأطفال اللقطاء في الشارع، بل في مكان بعينه يفلح، إمعانًا في رمزية الضياع واللايقين تلك، إذ لا يفلح الضباط في التعرف إلى هويات أهل أولئك الأطفال الذين تم الإلقاء بهم في المزابل.
وحتى عملية التراسل بين أركان الرواية، والترابط بين الأحداث والشخصيات والمسارات يأتي عبثيًا، كأن يكون الطفل الذي تخلى عن اسمه (الراوي يسميه التائه) شقيق لشخصيّة عابرة مثل الطفل لاعب الكرة (نجم الدين)، أو أن تأتي شخصية ظهرت بشكل عابر وعبثي في مطلع الرواية (الصحفي ذو ربطة العنق الخضراء) ليظهر في موقع متأخر من الرواية منتدبًا من وزارة الإعلام إلى الإدارة التي يعمل فيها علي صلاح، بل ويصبح مديرًا عليه.
حالة اللايقين والتساؤل تصل إلى تكرار اختفاء الشخصيات، بشكل متقطّع مثل اختفاءات سعد نزوة، صديق علي صلاح، أو مثل شخصية إسماعيل خاتم، مدير علي صلاح في إدارة الحكومات المحلية، والذي يصل إلى الاشتباه في جريمة قتل.
وحتى على مستوى اللغة بكل احتمالاتها، يبدو تشبيه مثل "أردت أن أصفع لسانه" غريبًا وغير قابل للتحقق في الواقع بشكل حرفي، إلى هذا الحد بطّن أمير تاج السر روايته بالعبثية، مستخدمًا كل أدوات السرد المناسبة.
على هذا المنوال، وباستخدام تلك الأدوات، شيّد أمير تاج السر العالم الشبيه بالأحلام في روايته "حراس الحزن"، عالم مبطّن بحالة من السيولة والضياع واللايقين، تلك العناصر الثلاث التي جعلت الروائي يضع كلمة "الحزن" في عنوان روايته كخِلاصة من خلاصات النص.
تأويلات محتملة
على غرار التأويلات والمقاربات التي أحاطت بـ"المسخ" لكافكا، والتي صب تيار منها في خانة الإحالة للواقع والظرف السياسي والاجتماعي في المجتمع الصناعي، أو في المجتمعات الأوربية وتعاملها مع الأقليات اليهودية فيها، إلا إلى كافكا نفسه وحالته الصحية واعتلال رئتيه.
فهل يمكننا أن نطرح سؤالًا كهذا: هل كان أمير تاج السر يستخدم هذه العناصر للإحالة إلى واقع مضطرب عاشته السودان منذ اندلاع المظاهرات ضد عمر البشير ومرورًا بالأحداث التي أعقبت ذلك؟ وأي رمزية تجسدها شخصية "سمية رمضان" جارة البطل التي أحبها في صمت، وتزوجت ضابطًا قُتِل في صراع بين قبيلتين محليتين، وهي المرأة التي حملت سفاحًا ثم تخلصت من ابنها في الشارع قبل أن تعود مرة أخرى وتتبناه؟ ولا يبدو مستبعدًا أو غريبًا استقبال مناطق كبيرة من النص بوصفها إحالات رمزية وعبثية إلى واقع يعيشه السودان.