رمضان جانا «٤»
البحث عن الله على طريقة شاروخان
فى كتابه «البحث عن شاروخان: ٤٠ يومًا فى الهند»؛ للكاتب مهدى مبارك، نذهب مع الكاتب فى رحلة روحية لاكتشاف الهند أم العجائب ونتعرف عن قرب على الطقوس الدينية فى بلد المليار إنسان، كان الهدف من رحلة الكاتب أن يُجرى حديثًا صحفيًا مع الممثل شاروخان أو الزعيم الروحى للبوذيين الدالاى لاما، لكن الرحلة تحولت لبحث عن الله، أو الأدق رصد لعلاقة الإنسان الطقوسية مع إلهه.. أن تبحث عن الله وتحاول الوصول إلى رموز الأديان المتعددة فى بلد يزيد عدد سكانه على مليار إنسان «أكثر من مليار لغز ومأساة لإنسانية تعانى بالقرب من المعابد والكهنة الذين لا يقدمون ولا يؤخرون شيئًا».
زار مقام نظام الدين فى وسط مدينة دلهى، وهو مقام يزوره أتباع أربع ديانات، آلاف من الهندوس والسيخ والبوذيين والمسلمين.
سأل مريدًا هندوسيًا: هل تقرأ الكتابات الإسلامية التى تزين الضريح؟ هل تعرف آية الكرسى؟
قال: أفهم «الله» فقط، ولكل واحد الله خاص به، لكن الموسيقى والأناشيد تقربنى من إلهى، والقرب من الضريح يدغدغ شيئًا فى قلبى، فأغرق فى دموعى وأحزانى وأذكر كل آثامى وأتطهر.
وسأل شابًا بوذيًا عما يبحث عنه فى ضريح شيخ مسلم، أجاب: «الخلوة لإمتاع الروح، السياحة لراحة النفس، التواشيح الصوفية للمزاج».
ويمارس راهب هندوسى رياضات روحية: «أدرب روحى على أن تصبح أخف لتنتقل إلى السماء بسرعة».
كلها سبل للتطهر والوصول إلى الله، ولا تخلو الشعائر من ترانيم وأناشيد وموسيقى، الديانة السيخية هى مزيج من الديانة الإسلامية والهندوسية، فقد أخذوا من الإسلام ما يناسبهم وتركوا ما لا يريدونه، فالهدف هو النجاة من الهلاك، وكان «ناناك» مصلحًا اجتماعيًا يملك وجهة نظر: «خذوا من كل الأديان، الحلو من هنا والحلو من هناك، وحافظوا على أن يكون الله الواحد الأحد معكم.. تصبحون سيخًا».
الرحلة الروحية لا تكشف فقط عن الجوانب العميقة فى علاقة الإنسان بإلهه، بل تكشف أيضًا كمًا كبيرًا من التجارة باسم الإله، عن الاستغلال البشرى لمفاهيم البركة والقداسة، تبحث عن الله فتجد فى رحلتك من يكذب باسم الله ويغش باسم الرسول، ومن يسرق باسم الله.. ومن يتاجر باسم الله.
ففى الهند يحضرون الأرواح، أرواح الأحياء وليست أرواح الأموات، ليزنوها، فإذا زادت عن ٢٧ جم فمعنى ذلك أن روحك مثقلة وملطخة بالذنوب، ولا بد من دفع عدد من الروبيات إذا كنت هنديًا أو الدولارات إذا كنت أجنبيًا لغسل وتطهير روحك، وإلا صبّت الآلهة عليك اللعنة.
ويرصد مهدى مبارك «معابد بكل الأشكال والأحجام تبيع الوهم للزبائن الذين جاءوا لدخول الجنة قبل أن يأخذوا حصتهم من الدنيا»، لا فرق بين الدين والديون، كلاهما إيصالات أمانة ستدفع فى الوقت المناسب.. إن من تعاليم الآلهة أن التبرع يضمن قبول الصلاة، فردّ عليه: «نقودى لا تكفى، فهل تقبل الدفع بالفيزا كارد؟».
وعلى من يرغب فى دخول المعبد أن يدفع ٧ دولارات، ولكى يلتقط صورة لا بد أن يدفع ٤٠ دولارًا صباحًا وما يعادل ٥٠ دولارًا ليلًا؛ «حين يحلّ الظلام وتسلط كشافات على المبنى العتيق تجعله أسطوريًا».
بجوار كل مكان للصلاة معرض ضخم لبيع الملابس والتمائم والحلى، التى تقدم للآلهة، يقول الرهبان القائمون على البيع إنها نالت صلوات مقدسة، ومن ثم فإن شراءها واجب دينى، وهكذا «بدا الأمر تجارة صريحة بالدين، جعلت كل الممارسات الروحية طقوسًا شكلية لا تحمل تحتها حرارة روحية حقيقية، كأن المعبد سوبر ماركت لابتزاز الأجانب».
يكتب مهدى مبارك عن التفاوت الطبقى فى الهند الذى لم تستطع كل الأديان أن تقضى عليه: فى النظام الاجتماعى الهندى يمكن لكل من ينتمى لطبقة البراهمة ممارسة دور الكاهن، فيما يحرم عليه القيام بوظائف عادية وأعمال تجارية، حياة الرهبان قائمة على تبرعات المؤمنين ولا تنتهى الزيارة عند طلب المال، بل بتحديد المبلغ المطلوب كى يقبل الإله الصلاة.
فى المقابل، يرضى المنبوذون بقسمة الآلهة، لا يعلنون الألم أو الأذى من اعتبارهم طبقة أقل من الجنس البشرى، فإن لمس فرد منهم إنسانًا أو طعامًا أصبح نجسًا ولا يتاح له السير فى الطرق العامة أو الشراء من المحال التجارية، وإذا سقط ظل أحدهم على شىء وجب حرقه فورًا.. غاندى الأب الروحى والسياسى للهنود حاول إزالة الفروق بين الطبقات وفشل، حتى اعتبرته جماعة متشددة مهرطقًا يريد أن يحذف من الدين جوهره، وأحلَّت دمه واغتالوه.
الرحلة فى كتاب «البحث عن شاروخان» تستحق القراءة، فهى ترصد أحوال الإنسان فى لحظات ضعفه ورجائه فى ساحة إلهه، ورغم كل ما يكتنف الرحلة من صعوبات، مضايقات، شكوك، أساطير، خرافات، فإنه لا يخيب سعى مَن يبحث عن مولاه.
وللحديث بقية.