رسائل توشكى
تابعت مع ملايين المصريين تصريحات الرئيس عقب افتتاحه موسم حصاد القمح فى توشكى، وأنا من الذين يؤمنون بأن أى حدث يقوم به الرئيس يحمل رسالة، وأظن أن الرسالة هى رسالة تطمين للمصريين بأن هناك من فكر منذ سنوات فى سيناريوهات أزمة عالمية تعوق وصول القمح لمصر بأسعار مناسبة أو فى ظروف مناسبة، وأنه بعد التفكير كان هناك تنفيذ، وأن هذا التنفيذ كان قادرًا على التغلب على الصعوبات التى أعاقت اكتمال هذا المشروع من قبل، وأن هذا التفكير والتنفيذ تمَّا وسط ظروف ضاغطة منها الحرب على الإرهاب، والتحديات الإقليمية، وعدم توافر الموارد الكافية، ومع ذلك استطاعت مصر أن تفعل.. من هذه التحديات مثلًا أن جدارًا صخريًا كان يعوق تدفق مياه الرى لمساحات واسعة من أراضى توشكى وأن القوات المسلحة استخدمت ثلاثة ملايين طن من المتفجرات لإزاحة هذا الحائط من طريق المياه، والذى كان وجوده يحكم على المشروع بالفشل رغم حاجتنا الملحة إليه.. من هذه التحديات أيضًا قلة المياه اللازمة للرى فى ضوء زيادة عدد السكان وثبات حصة مصر من المياه، وهو تحدٍ انتصرت مصر عليه بإنشاء محطات معالجة عملاقة لمياه الصرف التى كان علينا إعادة استخدامها، وكان التحدى الثالث هو توفير مليارات الجنيهات للاستثمار فى هذه المشروعات التى كان يجب إنجازها منذ عقدين على الأقل، وهنا كان علينا اللجوء لمؤسسات التمويل الدولية، وهذا فى حد ذاته تحدٍ يجب أن نحرص على التعامل معه بحرص وحذر رغم أنه تمويل لازم لإنجاز مشروعات لا غنى عنها على مستوى الأمن القومى والضرورة الاقتصادية، ومع ذلك فإن نتاج كل هذه التحديات والجهود والقروض أيضًا أن مصر استطاعت إضافة ثلاثمائة ألف فدان لرقعتها الزراعية القليلة والمتآكلة بأيدى أبنائها، وأن هذه الآلاف من الأفدنة مزروعة بالقمح، أغلى المحاصيل لدى المصريين الذين طالما حلم علماؤهم ومفكروهم بتحقيق الاكتفاء الذاتى منه.
الأزمة الاقتصادية بدأت منذ ٢٠١١
لقد كان من رسائل الرئيس فى توشكى أن الأزمة الاقتصادية بدأت عقب يناير ٢٠١١ وما صاحب أحداث الثورة من توقف السياحة وتراجع الاستثمار والانكماش الاقتصادى.. وفى ظنى أن الرئيس أراد أن يختصر الموقف ويقرب المعنى للأذهان.. لكن الحقيقة أن الأزمة لها جذور أبعد من هذا وأساسها أن إنتاجنا الصناعى لا يضمن لنا تحقيق ناتج قومى عالٍ، وأننا عجزنا ضمن دول عربية أخرى عن تقديم منتج ينافس فى الأسواق العالمية ولم نلحق لا بالثورة الصناعية، ولا بالثورة الإلكترونية، ولا بثورة المعرفة، ولهذا جذور عميقة وأسباب ثقافية وسياسية واجتماعية ودينية أيضًا، وأن الأزمة ظلت تتداعى حتى عجزت مصر عن سداد أقساط الديون فى عام ١٩٨٩ والتى أنقذتنا منها أحداث غزو العراق للكويت وإقدام نادى باريس على إلغاء نصف ديون مصر مع تسهيلات مالية أخرى، وقد اعتبر الكثيرون أن هذه كانت أعظم الفرص الضائعة فى عصر الرئيس مبارك، وأنها كانت فرصة لانطلاقة اقتصادية لم تتحقق وبقينا محلك سر مع اختفاء ملامح الأزمة الحادة.. ربما كان السبب هو حذر الرئيس مبارك واكتفاؤه بتوفير المبالغ اللازمة لدعم الطاقة والخبز مع إنجازات بطيئة وهامشية فى مشاريع البنية التحتية، وكفى الله المؤمنين القتال.. وهو ما أدى مع الزيادة السكانية السنوية لتدهور مريع فى أحوال البلاد وإحساس الناس بأن الدولة لا تقوم بدورها فى التنمية، ولجوئهم لجماعات التطرف.. تغير الوضع فى آخر خمس سنوات مع حكومة أحمد نظيف التى اتجهت لليبرالية التى توصف بـ«المتوحشة» وقيل إن الاستثمارات الغربية زادت للضعف، لكن ثمار النمو ذهبت لجيوب مجموعة قليلة جدًا ممن أمسكوا بزمام السلطة، فكانت النتيجة مزيدًا من الضيق أعقبه الانفجار.. وبالتالى فإن الأزمة لم تبدأ مع يناير ٢٠١١ ولكنها انفجرت مع يناير ٢٠١١، بمعنى أنها كانت أزمة مؤجلة لأن النمو الاقتصادى دون شرعية سياسية لا يقود المجتمع إلى الأمام وقد كان هذا هو الوضع قبل ٢٠١١.
ما يحدث فى سيناء مخطط منذ ١٧ عامًا
كان من الرسائل التى توقفت عندها ما قاله الرئيس من أن ما يحدث فى سيناء مخطط منذ ٢٠٠٥.. لقد كان هذا التاريخ من التواريخ التى توقفت عندها كثيرًا إذ إنه قريب من وجود القوات الأمريكية فى العراق وتخريب مؤسسات الدولة العراقية وبدء الحديث الأمريكى عن تغيير النظم الذى كان يعنى فى حقيقته تخريب الدول لا تغيير الحكام.. لقد بدأ الإرهابيون فى سيناء عملهم منذ ٢٠٠١ تحت مسمى «التوحيد والجهاد» وكان نشاطهم شبه علنى وسط غياب تام من مؤسسات الدولة وقتها.. وهذا الغياب هو من الفواتير المؤجلة التى تدفعها الدولة المصرية حاليًا.. فقد كانت الدولة غائبة أمنيًا وسياسيًا وتنمويًا، فكان أن وجد الإرهاب مساحات شاسعة يتمدد فيها وينمى مشاعر المظلومية لدى أهالى سيناء، وظل تنظيم «التوحيد والجهاد» أربع سنوات كاملة يجند الأنصار ويراكم الأسلحة والمتفجرات حتى أفاقت مصر كلها على تفجيرات قوية فى أحد فنادق مدينة طابا فى عام ٢٠٠٥، واختار الإرهابيون يومًا له دلالة وهو يوم ٢٣ يوليو وهو العيد الوطنى لمصر.. ولجأت أجهزة الأمن وقتها لأساليب ربما تكون مفيدة أو مضرة.. لكن الإرهاب واصل النمو وتكررت التفجيرات فى ٢٠٠٦ فى شرم الشيخ، وفى ٢٠٠٧ فى دهب، وبعد ٢٠١١ تحولت سيناء إلى مسرح للإرهاب الدولى وظهرت بها فروع لتنظيمات الإرهاب العالمى من القاعدة إلى داعش، وكان الهدف هو سلخها من مصر وفق مخطط شهير لتفتيت الدول العربية وتحويلها إلى دويلات صغيرة.. وبالتالى فإن الدولة المصرية حاليًا تقوم بسداد فاتورة متأخرة، وتنجز مشاريع كان يجب البدء فيها منذ اليوم الأول بعد استرداد سيناء، بإجمالى ٤٣٥ مشروعًا تنمويًا كبيرًا فى سيناء، وبمد خمسة أنفاق مختلفة تربط الوادى بسيناء لضمان مواصلات آمنة لحركة الامتداد العمرانى والخروج من الوادى التى نتحدث عنها منذ أربعين عامًا ولم تبدأ فى تنفيذ خطة جادة بشأنها إلا بعد تولى الرئيس السيسى.
التحدى أكبر من أى حكومة
لنتفق جميعًا على أن كل إنسان يستقبل ما يسمع وفق فهمه وثقافته ومدى موضوعيته من عدمها.. لقد فهمت هذا التصريح وفق منهج إصلاحى أفهم منه أن تحدى النهضة فى مصر هو تحدٍ حضارى، وأنه لا نهضة بلا تعليم جيد، وأن إقرار نظام تعليم جيد يستغرق على الأقل اثنى عشر عامًا هى المدة التى يقضيها الطالب فى التعليم، وأنه مع التعليم الجيد لا بد من مؤسسات ثقافية فعالة، وإصلاح اجتماعى جبار يصالح الناس على أنفسهم ويطلق طاقاتهم للعمل والإبداع، وأنه إلى جانب كل هذا فلا بد من إصلاح دينى يصالح الناس على الدنيا، وينفى تفسيرات المتطرفين والإرهابيين واختطافهم الدين، ويقنع الناس بأن الغاية من حياة الإنسان على الأرض هى الإعمار وأن يسعد نفسه والآخرين، وأن يكون سببًا للحياة لا للموت، ولا أظن أن أى حكومة فى مصر لديها عصا سحرية لتحقيق كل هذه الإصلاحات فى غمضة عين، فهى شأن كل إصلاح جاد تحتاج وقتًا وجهدًا وإرادة ومشاركة ورؤية ولا يمكن تحقيقها فى طرفة عين أيًا كانت الحكومة أو رئيسها.. وهى أيضًا سداد لفواتير متأخرة كان يجب دفعها منذ أربعة عقود واكتشفنا جميعًا أنها لم تسدد ويجب دفعها الآن.
نحو حوار سياسى
من الرسائل الهامة للغاية ما طرحه الرئيس حول دعوة المصريين للحوار السياسى بعد أن انتصرت الدولة فى الحرب على الإرهاب، وأنجزت خطوات مهمة فى الإصلاح الاقتصادى، أهمها القضاء على عجز ميزان المدفوعات وتوفير الهدر فى بعض أشكال الدعم التى كانت تصل لغير مستحقيها.. ولكننى أسمح لنفسى فأجتهد وأقول إننا فى حاجة لحوار حضارى وفكرى حول سبل الإصلاح أكثر من حوار سياسى تحضره نفس الوجوه التى نراها منذ التسعينيات، إننى كمواطن وكصحفى لا أريد تنظيرات ومطالب مكررة تعبّر عن تصورات أصحابها، نحن فى حاجة لدعوة مفكرين وفلاسفة وعلماء اجتماع حول الإصلاح فى كل المجالات.. كيف ننهض بالصناعة؟ كيف نجعل المصريين يؤمنون بالعمل أكثر؟ كيف ننشر التفكير العلمى بين المصريين؟ ما علاقة التفكير العلمى بالتقدم الصناعى؟ ما علاقة التقدم الصناعى بالمرتب الذى يدخل جيب المواطن شهريًا وبكيلو اللحم الذى يشتريه؟.. هذا هو ما نريد من النخبة المصرية أن تجتهد فى الإجابة عنه ونريد أن نفتح حوارًا حوله قبل أى شىء آخر.
لا توقف للمشروعات
أقوى رسائل الرئيس السيسى كانت تلك التى قال فيها إنه لا توقف لمشروعات «حياة كريمة».. فعربة الزمن لا تعود للوراء.. والعمل بدأ على الأرض منذ عام تقريبًا.. والمريض فى غرفة العمليات وبطنه مفتوح، على حد التعبير الشائع، وهناك استثمارات تم ضخها وجهود نبيلة بذلت وما زالت تبذل، ومواطنون تغيرت حياتهم بالفعل، وآخرون يحلمون أحلامًا مشروعة بأن تتغير حياتهم.. من المنطقى طبعًا فى ضوء هذه الأزمة أن يتم العمل وفق نظام الأولوية.. المهم فالأهم، وقد أشار الرئيس لأهمية وأولوية مد الصرف الصحى الذى كان ٦٠٪ من قرى مصر محرومة منه حتى بدء مشروع «حياة كريمة».. وهى نسبة قد تكون صادمة لكثير من القاهريين وأهالى المدن الكبرى الذين يظن بعضهم أن الدنيا تبدأ وتنتهى عند همومه الخاصة.
إننى أظن أن هذه الأزمة العالمية الداهمة التى أثرت على ما يقرب من ١٤٣ دولة، وفق ما أعلنه الرئيس، والتى اعتبر الأمين العام للأمم المتحدة أنها بمثابة حرب على فقراء العالم.. أظن أن هذه الأزمة قد تكون جرس إفاقة لنا ينبهنا ويدفعنا لمعالجة الأزمة من جذورها وهى أزمة حضارية فى الأساس.