إعلان.. إعلان.. إعلان
أتذكر أنني كتبت في بداية حياتي المهنية مسرحية كوميدية من فصل واحد كان اسمها "مينا بصل" تحكي قصة تاجر يجلب محصول البصل من الصعيد ليبيعه في أسواق القاهرة، وحدث أن كسد سوقه وكاد بصله أن يتلف، فما كان منه إلا أن فكر في إعادة تدوير منتجه الذي فسد أو يكاد، وكانت المفارقة أن صنع منه منتجًا من الشيكولاتة بإضافة بعض المكسبات للطعم والرائحة وبقى أمامه إيجاد السبيل لتسويق المنتج وإقناع السوق بشراء بضاعته غير العقلانية.
ولكن بما للإعلان من قوة تأثير فقد وجد ضالته عند جاره القاهري مخرج الإعلانات الذي خطط له وأدار حملة إعلانية سوقت لشيكولاتة البصل غير المستساغة، بعد أن أقنعت الناس به في أيام معدودات، وأتذكر الاستعراض الافتتاحي للمسرحية الذي يلخص علاقتنا بالإعلانات قديمًا وحديثًا وربما مستقبلًا، قلت فيه:
- إعلان.. إعلان.. إعلان
- الكون بقي كله جنان وده هو بسبب الإعلان
- تي في راديو وجورنال والبوستر ع الجدران
- إعلان.. إعلان.. إعلان
- إعلان بيقول اشتري فستان بيطير في الجو
- إعلان بيقول كل كيلو هباب علشان تحلو
- إعلان بيبيع لنا لحم كلاب وقطط نونو
- إعلان عن فلفل، ماركة زيت، محشي بتنجان
- إعلان.. إعلان.. إعلان
- إعلان عن شركة في عز الصيف بتبيع بطاطين
- إعلان عن ماركة سمن جديد مصنوع م التين
- إعلان عن ورد النيل يا حلاوة ده بقي برفان
- إعلان.. إعلان.. إعلان
- إعلان بيقول البس جزمتنا وقول يا فكيك
- إعلان بيقول اشتروا يا جماعة هدومي الشيك
- إعلان عن قرية بقت حاجة تانية وفيها حيتان
- إعلان.. إعلان.. إعلان
تلك كانت رؤيتنا لسوق الإعلانات قبل نحو عشرين سنة، فما بالكم بالحال اليوم لقد سيطر المنتج الإعلاني على سوق الإعلام وهذه السيطرة لا تتمثل فقط في المساحة التي احتلتها الإعلانات من ساعات هواء القنوات والإذاعات، لكنه فرض على المنتج الإعلامي شروطه ووجوهه أيضًا وفي هذا السياق حدث ولا حرج وأمامكم الشاشات لتصدقوا على ما نقول أو تكذبوه.
فمن الواضح لكل متابع كم اللاعبين الذين استطاعوا بحضورهم (الإعلاني) وعلاقاتهم مع الوكالات والقنوات تجنيب رموز الإعلام الرياضي الذين صنعوا له قاعدته، وكذلك الفنانات اللاتي اقتحمن مجال تقديم البرامج فاختفت بظهورهن البرامجي مذيعات تمتعن بالمهنية والكفاءة، لمبرر بسيط هو أن المعلن عايز كده في حين أن ما تربينا عليه هو أن الحضور (الإعلامي) هو أول الشروط المؤهلة لنجاح شخص ما في مجال الميديا.
فضلًا عن أن الإعلام يعتمد لغة الحقائق كلغة رسمية له وإلا فإنه سيفتقد المصداقية التي هي أول شروط نجاحه، أما الإعلان فإنه يعتمد على المراوغة والمبالغة والتضخيم وهو ما يحدث غالبًا في مثل تلك البرامج التي تختلق المشكلات وتتعمد صناعة الأزمات حتى تزداد نسبة المشاهدات وما يتبعها من زيادة حصيلة الإعلانات.
لقد مللنا وضج المشاهدون من بعض الوجوه التي تظهر لنا مرة كممثلة وأخرى كمذيعة فضلًا عن "الفورمات" البرامجية التي تنتهك كل قواعد المهنية ولكن لأن وراءها من يمول بسخاء ومن يضمن تعويض التمويل بسيل من الإعلانات وملايين جنيهات المعلنين فهي تطل علينا كل عام، وصناع تلك البرامج يكادوا أن يخرجوا ألسنتهم في وجه كل منتقديهم.
وقد كان حديث الشارع في هذا الموسم الرمضاني هو هذا الطوفان من الفنانين الذين اقحموا على السوق الإعلاني إقحامًا وبالنسبة لي فأنا لا أعارض أبدًا ما يراه المخرج أو المعلن من وجود نجم ليروج لمنتجه وهذا ما نجحت فيه إحدى الشركات قبل عقود عندما استعانت بالفنان حسن عابدين ليروج لمنتجها بحملة طويلة وناجحة لكن لابد أن يكون لوجود هذا النجم أو ذاك مبررًا تسويقيًا أو حتى فنيًا أما ما يحدث فهو إقحام الفنانين إقحاما غير مبرر.
وعلى عكس ما كانت عليه الإعلانات قديمًا من اكتشافها لنجوم تتلقفهم استديوهات التمثيل فيما بعد، أصبح العكس هو الصحيح فقد كان لسوق الإعلانات فضل اكتشاف نجمة بحجم ياسمين عبدالعزيز وغيرها.
أما اليوم فإن السوق الإعلاني يمكن أن يحقق الاستغناء المالي لكثير من النجوم مما يجعلهم ينصرفون عن تقديم أعمال فنية، ففي دخل الإعلان ما يكفيهم وزيادة، ولا يمكن أن نتجاهل في هذا السياق الإشارة إلى تلك الإعلانات المضللة كإعلانات الأدوية والمكملات الغذائية التي تتسرب إلى الشاشات دون مراجعة طبية متخصصة وتكاد تسبب كوارث صحية لمتداوليها.
لكن الأكثر استفزازًا هذا العام كان ما أعلنته بعض المواقع عن قيمة أجور كبار الفنانين الذين قدموا إعلانات تجارية، ومن ناحيتي فأنا لا أرى أي مجال للنقد في هذا السياق، فالمعلن له الحق في جلب من يراه سيروج لمنتجه وسياسة العرض والطلب هي الحكم بين المعلن والفنان بطل الإعلان.
لكن ما استفز الجمهور هو أن تتصدى جهة حكومية ليس لها منافس في مجالها الخدمي لإنتاج إعلان يروج لخدماتها فضلا عن الاستعانة بنجم كبير تقاضى ملايين كثيرة في إعلان طويل لم تتم الاشارة خلاله لخدمات هذه الجهة المعلنة بكلمة واحدة.
زد على هذا أن المنتج الإعلاني طغى بشدة على الخريطة الإعلامية وخاصة عند عرض المسلسلات فأصبح بين كل فاصل درامي مدته عشر دقائق هناك فاصل إعلاني لا يقل عن ربع ساعة وقد يزيد.
والسؤال للمعلنين هو: هل تظنون أن المشاهد يرضخ لإراداتكم ويبقي على الشاشة التي يشاهد عليها العمل الدرامي خلال الفاصل الإعلاني؟
يؤسفني أن أخبركم أن المشاهد أصبح من الذكاء بحيث يستخدم الريموت ليبحث عن مادة درامية أو برامجية أخرى ثم يعود إليكم حين تنتهون من عرض إعلاناتكم المطولة تلك وأتساءل لماذا لا يفكر المعلنون في البحث عن وسائل أو أفكار جديدة تفرض المنتج الإعلاني على المشاهد دون أن تحرمه من متعة متابعة المادة التي يتابع الشاشة لأجلها.
وحتى نكون منصفين فمن الواجب أن نشير ونشيد بفنانين كبار ساهموا في الترويج لمستشفيات أو مصالح حكومية أو حملات قومية توعوية دون تقاضي أي مقابل مالي، إنهم بهذا يدركون الدور المجتمعي والواجب الوطني الذي ينبغي لمن حقق الشهرة من الفنانين أن يقوموا به تجاه مجتمعهم ومؤسسات دولتهم وتوعية مواطنيهم وليس استفزازهم.